"لا أذكر أنني أحضرت يومًا الحويرة التي دوما ما كانت تطلبها مني أمي حين أتوجه إلى الجبل القريب من القرية. كنت أذهب لأراقب الكهوف والمغر، لم أقترب من أي منها، كنت أخالها مكانا يلتقي فيه الثوار، رسمت صورًا كثيرة لأبو عمار وأبو جهاد ويتخذان من تلك الأماكن مقارا لهما".

لفتاة في الثالثة عشرة، لم تكن الورود ولا رسائل الحب همها الأكبر، حقيبتها لم تخل من البصل يومًا، ومريولها المدرسي يعتليه الشحبار معظم أيام العام، تعلم يقينًا أنها لم تكن الحياة المثالية لمراهقة، ولكن هكذا أرادت أن تكون.

شقت ماجدة صبحي من قرية بيت صفافا في القدس المحتلة، الحضور بثوبها الأسود المعشق بالأحمر، لتحكي حكايتها. ست خطوات قادتها إلى المساحة المخصصة للحكاية، خلفها ستار أسود، ضمت يدًا على الأخرى، وأقرت بادىء الأمر أنها ليست "حكواتية"، وإنما هنالك قصص عاشتها وتستحق أن تروى.

عادت بالحضور إلى سبعينيات القرن الماضي، حين كانت الحياة مختلفة وكذلك الأماني والأحلام والطموح، أمنيتها كانت خياطة أكبر علم لفلسطين في تلك الفترة، وقتها كان العلم محظورًا ومن يمســــك بحوزته يعتقل.

المشهد في القدس لم يختلف كثيرًا عن تلك السنين، أما في المدن الفلسطينية فتنتشر الأعلام هذه الأيام بكثرة على واجهات المحال والمؤسسات وفي كل مكان خاصة في المناسبات الوطنية.

اختارت الذكرى الرابعة ليوم الأرض الخالد عام 1980، لتحقيق حلمها بخياطة العلم الأكبر، عملت بشكل سري، لم يكن سواها يعلم بذلك، فكانت تحيك العلم في ظلمة الليل بعد أن تخلد أسرتها للنوم، اتخذت سريرها غرفة عمليات، شقت فرشته لتخبىء "آثار الجريمة".

"يا رب سامحني"، قالت ماجدة بعد أن روت كيف كانت تحصل على قطع القماش لتكوين العلم، تستلف في بعض الأحيان قطعًا خضراء من جارتهم، وتشق قميص شقيقها الأسود دون علمه، ومن ورش البناء "تسرق" قطع خشب ومسامير.

في التاسع والعشرين من آذار/ مارس عام 1980 عادت من مدرستها، ولأول مرة كانت والدتها تنتظرها على عتبات المنزل، واضعة يمناها على خدها، وما أن وصلت حتى بادرتها بالقول: "قبرتي إخوتك". الأم اكتشفت السّر بعد أن اختارت ذلك اليوم لتعرّض الفراش لأشعة الشمس.

استغرق الأمر عدة ساعات، تخللها الكثير من محاولات التوسل وطلب الصفح كي تستعيد علمها الذي لم تنجزه بعد، وساعات تفصل فلسطين عن حلول ذكرى يوم الأرض.

بعد صلاة الفجر تسللت إلى مسجد بيت صفافا، وكنت قد استمحت الشباب عذرًا لكي اعلق العلم بنفسي وتسجل سابقة، قالت ماجدة.

اتخذت خطواتها الشكل الحلزوني للوصول إلى أعلى نقطة من المئذنة، وهناك غرست أكبر علم تمكنت من حياكته، وكان بطول 150 سم.

ما أن أنهت ماجدة صبحي من قرية بيت صفافا في القدس المحتلة تلك الكلمات حتى ضجت مكتبة مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في رام الله بالتصفيق. نحو 50 شخصًا من فئات عمرية مختلفة جاؤوا لحضور فعالية يوم الحكايا العالمي، الذي نظمته "مجموعة حكايا" التابعة للملتقى التربوي العربي، في إطار إحياء فعاليات هذا اليوم، الذي يصادف العشرين من آذار/مارس في كل عام.

ماجدة "أم طارق"، التي ترفض أن تُعرف كحكواتية، تقول: إن أهمية نقل التجارب حتى لو كانت عفوية للأجيال القادمة؛ هي زرع حب الوطن، وإعطاء صورة مختلفة عن الطفل الفلسطيني، الذي لم يكن يكترث باللعب فقط، وتأتي أيضًا لتوثيق فترة تاريخية من حياة شعبنا في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، حتى نخلد هذه الحقبة، التي أخشى أن تطمس.

"أم طارق" تؤمن أن خطأً ارتكب على صعيد توثيق التاريخ، إذ غُيب الأطفال والنساء وبعض القصص البسيطة ذات الأهمية من كتب المؤرخين، وهناك الكثير من الحكايات، التي لم تنقل من حواري فلسطين.

تعمل ماجدة واعظة دينية، ولم تر يومًا تناقضًا بين دورها هذا وموهبتها في رواية الحكايات، تحب الأدب والشعر والتراث، وتسعى للخروج بتوليفة بين الأمرين، وتعتمد أسلوبًا ترفيهيًا مشوقًا في الوعظ، يقوم على سرد حكايات وقصص تظهر سماحة الدين الإسلامي.

تود "أم طارق" أن تنجز قريباً موسوعتها الخاصىة بثويق "العرس الصفافي"، وهي عبارة عن كتاب ترصد من خلاله كيف اختلفت قبل النكبة وبعدها عادات وتقاليد أهل القرية في الأعراس، والأغاني التي كانوا يرددونها، خوفا من أن تنسى الأجيال القادمة الشكل التقليدي للزفاف وأغاني "السامر" في سهرات الرجال، وزفة العرس.