تتنقل النخبة السياسية الفلسطينية على مدار عقود الصراع الخمسة الماضية (زمن الثورة الفلسطينية المعاصرة والسلطة الوطنية) بين خيارين سياسيين لا ثالث لهما، الخيار الاول الذي وسم برامج فصائل الثورة الفلسطينية (اليسار واليمين والوسط)، كان خيار الدولة الديمقراطية الواحدة.
غير ان هذا الخيار اصطدم بمجموعة من العقبات السياسية عربية واقليمية ودولية، ما دفع قيادة الثورة للأخذ ببرنامج المرحلية، التي قامت على مرحلة البرنامج الاستراتيجي، الذي اصبح فيما بعد البرنامج الاستراتيجي، اي ان الخيار الثاني أمسى خيار الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967 مقرونا بضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين على اساس القرار الدولي 194.
الخيار الثاني اصطدم بالرفض الاسرائيلي، وفتح شهية القيادات الاسرائيلية من مختلف الوان الطيف السياسي الاسرائيلي على تعميق خيار الاستيطان الاستعماري في الاراضي المحتلة عام 1967 وخاصة في القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، والدفع بهدف الترانسفير لتبديد وتصفية القضية الفلسطينية. الامر الذي عاد مجددا نتيجة الانتهاكات والاعتداءات الاسرائيلية المتواصلة على حقوق الفلسطينيين من خلال عمليات التهويد والمصادرة للاراضي واعلان العطاءات المتواصلة للبناء في تلك الاراضي، وازدياد الاعتداءات من قبل قطعان المستوطنين، وبفعل التحولات، التي احدثتها العمليات الاستيطانية على بنية وتركيبة الدولة الاسرائيلية، حيث باتت دولة تابعة لدولة الاستيطان الجديدة القائمة في اراضي الضفة بما فيها القدس، وامسى القانون والاقتصاد والثقافة وطبعا السياسة اسيرة برنامج الاستيطان الاستعماري، كون القيادات الاسرائيلية شعرت ان العالم وخاصة الولايات المتحدة وباقي اقطاب الرباعية، لن يتمكنوا من اتخاذ اية إجراءات رادعة ضد سياساتها العدوانية، لا بل هناك شعور بالرضى من تواطؤ الادارة الاميركية مع تلك السياسات والممارسات.
هذا التطور العاصف واللاشرعي واللاقانوني الاسرائيلي أعاد للاذهان مجددا خيار الدولة الواحدة. لان حكومات إسرائيل المتعاقبة اسقطت عمليا خيار الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967، ولم يعد ممكنا سياسيا سوى خيار الدولة الواحدة بغض النظر عن الشروط المجحفة بحق الفلسطينيين غير المرغوب بوجودهم اصلا في الدولة، رغم دعوات كثيرين من صقور اليمين الاسرئيلي بضرورة ضم الضفة الفلسطينية، والتعامل مع الفلسطينيين كمواطنين من الدرجة الثانية او الثالثة... او العاشرة. وهذه الدعوة لا تتناقض من وجهة نظرهم مع ما ينادي به اقطاب الحكومة الحالية والسابقة بـ "يهودية" الدولة الاسرائيلية!؟
وما لم يتمكن السيد كيري من إحداث اختراق حتى ال 20 من حزيران / يونيو الحالي وفق ما اراد من مهلة من الرئيس ابو مازن، فإن التطورات اللاحقة قد تفتح الافق على سيناريوهات مختلفة تبدأ بانطلاق هجوم السلام الفلسطيني في الانضمام للمنظمات الدولية، وتعميق الكفاح السلمي للشعب ، أضف الى تعزيز الهجوم الدبلوماسي لفرض الرؤية الفلسطينية على الاقطاب الدولية واللجوء الى الامم المتحدة كمرجعية للعملية السياسية، مع ما يعنيه ذلك من إسقاط الرعاية الاميركية والرباعية الدولية، والذي في حال ما اصطدم بالاستعصاء والجرائم الاسرائيلية، قد يفتح خيار لوح به الرئيس عباس عشرات المرات، وهو تسليم مقاليد الامور لنتنياهو وحكومته لتدير الاراضي الفلسطينية المحتلة مع ما يعنيه ذلك من فتح بوابة الثورة والانتفاضة للدفاع عن المصالح والاهداف الوطنية.
الثورة خيار مطروح ولن يأتي بقرار من هذا القائد او ذاك، وانما سياق تطور الاحداث قد يدفع الامور نحو الثورة، وقد تساهم إسرائيل بذلك بهدف خلط الاوراق ولتحقيق اكثر من هدف، منها تحميل الفلسطينيين عما آلت اليه الامور، ولكن عندئذ سيكون البساط ايضا سحب من تحت اقدام الاسرائيليين، ولن تكون هناك فرصة لاعادة الحديث عن خيار الدولتين، ولن يكون بمقدور اسرائيل الحديث عن روابط قرى ولا حتى ازلامها من الفلسطينيين، والتداعيات المحتملة لن تكون في مصلحة دولة الاحتلال والعدوان الاسرائيلية، لان هناك جيلا فلسطينيا اكثر تمسكا بالثوابت الوطنية واقل تساهلا ومرونة من القيادة التاريخية التي يمثلها الرئيس محمود عباس.