قال الشهيد الرمز ياسر عرفات: "عظيمة هذه الثورة! إنها ليست بندقية فحسب، فلو كانت بندقية لكانت قاطعة طريق، ولكنها أيضاً نبض شاعر، وريشة فنان، وقلم كاتب، ومبضع جراح، وإبرة لفتاة تخيط قميص وفدائيّها وزوجها ".
أبوعمار هو رمز ثوري ثقافي اهتم بالشكل والمضمون معاً: فلباسه يختصر فلسطين بكوفية الثورة التي تُتَوج شعار العاصفة– القوات الضاربة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح– وترسم خارطة فلسطين فوق كتف العسكري الفلسطيني المسلح بمسدس رمز الدفاع الشخصي، ومضمون زعامة ثورة شعب ظلمه العالم لكنه رفض أن يخرج من التاريخ فرسم جغرافيا الوطن بالدم والبارود معلنا أن شعب فلسطين هو الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه في أي معادلة سياسية لحل أزمة الشرق الأوسط.
إن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة في مسيرة النضال الوطني تحتاج إلى تغيير أدوات المقاومة أو تعديل شكلها أو أسلوب تعبير عنها وهذا ما يمكن أن يختصر مفهوم الثقافة النضالية لمرحلة ما من عمر الثورة. فالثقافة تحتاج إلى مواضيع تطرحها وأفكار تروجها عبر الإبداع الفني والأدبي وهو ما يسمى المُحَرّض الثقافي.
في العصر الحديث تحركت الثقافة في فلسطين من شمولية الخلافة العثمانية إلى خصوصية فلسطين في الفكر القومي- وبعدها الأممي الاشتراكي- ثم انبعاثها في المتجهات الوطنية التي طرحت تعايش الأفكار كلها لخدمة القضية الفلسطينية لأنها أكثر من عامل مشترك تؤمن به جميع المدارس الفكرية والحزبية، بل هي بداية تبلور الفكر الحر والخروج من تبعية الاستعمار وجبروت الأنظمة الاستبدادية. بل ان الشهيد الرمز ياسر عرفات قالها بأسلوب فلسفي عميق: لا يمكن أن نكون فلسطينيين إلا أن نكون عربا، وأن نكون عرباً يعني التزامنا بفلسطين. وفلسطين أولاً وأخيراً هي مشعل ينير دروب كل أحرار العالم.
يمكن اختصار أنواع الفكر الثوري بأسلوبَي تفكير. الأول هو الكورتزال الفردي والفينيق الجماعي إلا أن الشهيد الرمز ياسر عرفات سمح للكورتزال أن يحلق عالياً بل ان الفينيق العرفاتي قدّم الحماية وحضن المواهب الكورتزالية الفلسطينية والعربية وكذلك من كل الشعوب المضطهدة في العالم. فهو جمع المطروح من الثورة وفرض المنبوذ من الثقافة في ثنائية رسمت لعرفات صورة أكبر من فلسطين في الفكر الثوري وأحياناً كثيرة اختصرت فلسطين باسم ياسر عرفات في بلاد لا تعرف أين هي بلاد العرب أصلاً لكنها تعرف أن هناك قائدا ثوريا يناضل من أجل استقلال بلاده بقدر ما يسعى على مساندتهم في ثوراتهم التحررية.
وهنا لابد أن نقف طويلاً عند عبقرية الأمل وأسطورة النصر وخرافة قوة الاحتلال لأنها مجتمعة تشكل الركائز الفكرية في فلسفة ياسر عرفات. فقد تأمّل كثيرا تشتت الفلسطينيين بعد النكبة وضياع الوطن وفكرة الاستقلال في بداية الخمسينيات من القرن المنصرم، وتساءل كثيراً عن الراهن الخاسر في اصطفافات المثقفين الفلسطينيين خلف شعارات الأحزاب العربية والأممية وكذلك الإسلامية: لماذا سقطت فلسطين من أولوياتكم؟ لماذا أصبح تحرير فلسطين مشروطا بظروف مسبقة مثل انتقال الحكم في هذا البلد العربي لذاك الحزب السياسي؟ لماذا يفترض أن تتوحد كل هذه الأحزاب والدول قبل أن نبدأ معركة تحرير فلسطين؟ لماذا تقولون كل شيء إلا فلسطين؟ إلا أن السماء بدأت تعج بطيور الكورتزال التي لا تعرف إلا أن تحلق وحيدة.
طائر الكورتزال الجامايكي يمثل خرافة المقاومة بأسطورة الأمل للشعب الجامايكي. وتقول الأسطورة إن الشعب اختار زعيماً له ليقوده ضد الاحتلال الأوروبي. إلا أنه قُتِل غدراً من عمه الذي هادن المحتل وسلّم بلاده وخيراتها للاحتلال دون مقاومة بل أنه قتل وحبس كل من عارضه من شعبه. ولكن الشعب اعتقد أن روح زعيمهم المغدور سكنت في طائرهم الجميل الكورتزال الذي رفض الاحتلال بل أنه كان يقاوم وحيدا. مما جعل قوات الاحتلال تنظم حملات لإبادة هذا الطائر وحتى الغابات الحاضنة له، بل ومعاقبة أي فرد من الشعب يضع فواكه على سطح منزله لإطعام ما تبقى من الكورتزال. ولا تكتمل الأسطورة إلا عندما يؤمن أهلها بها ويقولون إن كل طائر يقتَل تنتقل روحه إلى طفل من أطفال جامايكا الذين شكلوا مقاومة شعبية بلا رأس ولا تنظيم بل هي مجرد أعمال فردية تنتقل بالعدوى الروحية بين الأطفال وطيور الكورتزال. المفارقة أن طائر الكورتزال الجامايكي يرسم على جسده الصغير ألوان العلم الفلسطيني بصورة تتجاوز كل الصدف الفلسفية.
في فلسطين بعد النكبة سكن الكورتزال في الفكر الوطني الفلسطيني الذي بدأ يغرّد خارج أسراب الأحزاب العربية والأممية والإسلامية. كان الفن والثقافة بداية إعلان الظاهرة الوطنية الجديدة على الفكر القومي الطاغي في تلك المرحلة، بل أن التنكيل بالمثقفين كان يفوق التنكيل بالمقاومة العسكرية. فظهرت بواعث المدارس الرمزية في الشعر والأدب وكذلك بروز الفن التشكيلي التجريدي معلنة بداية تشكل الشخصية الوطنية الفلسطينية في معزل عن الخلافات العربية-العربية وأولويات الأحزاب الرسمية والسرية بالمنطقة العربية. كانت طيور الكورتزال الفلسطينية تحلق على ارتفاع منخفض وكثيراً ما تسقط بفعل الرياح العربية غير الملائمة لأفكارها. لكن ما كان يجعلها تحاول مرة تلو الأخرى هو تجاوب الشعب الفلسطيني معها بل والمغامرة بدعم هذا الشعب ونشر ثقافتهم في ظل الاستبداد العربي الذي أعلن الوصاية على القضية الفلسطينية دون أن يمنح الشخصية الفلسطينية أي دور يخصها، بل انه أصر على أنهم مجرد عرب ترعاهم الحكومات العربية، وأحياناً عملاء لا يؤمن شرهم لأن ولاءهم توزع على كل الأحزاب والحكومات العربية، وأن ولاءهم متحرك بأسلوب انتهازي استفزازي. لكن طيور الكورتزال تكاثرت في فلسطين وتناثرت في المحافل الثقافية معلنة أنها وُجِدَتْ من رحم النكبة وأنها تطرح فكرة جديدة: فلسطين يمثلها أهلها.
إلا أن هناك جزءا مهما من المثقفين الفلسطينيين طرح فكرة التجمع في إطار جمهرة أطر ثقافية وفكرية تطرح فلسطين أولا، فكانت بدايات متفرقة لحد تضارب الأساليب واختلاف الشعارات لكنها تتجمهر حول مفهوم الوطن ودور الفلسطينيين في معركة تحرير فلسطين المغتصبة من الكيان الصهيوني، وجميع هذه الأطر كانت تؤمن بضرورة استنهاض الفينيق الفلسطيني من ركام النكبة فهو الوحيد القادر على جمعهم.
الفينيق أسطورة كنعانية سرقها الأغريق من الساحل الفلسطيني وتحديداً عكو- مدينة عكا – لكن كل تحويراتها تُبْقي الفينيق حلم الشعوب المضطهدة في الحرية والاستقلال. تقول الأسطورة إن الفينيق هو طائر كبير قادر على حمل المقاتلين. وتحت جناحيه الضخمين تحلق الطيور الصغيرة التي ترمز للعمل الفدائي الانتحاري الاستشهادي كخطوة ضرورية لتحرير الوطن من الغزاة. فطائر الفينيق لا يحلق إلا بعد النكبات ليبعث الأمل في روح المضطهدين وينظمهم لفعل التغييرات اللازمة لتحرير الوطن. فهو رمزية الوحدة الشعبية صانعة الانتصارات على جبروت الاحتلال. ولا تكتمل الأسطورة إلا ببقاء بيضة الفينيق تحت الرماد تراقب الوطن وأحواله وعندما تشعر البيضة بتصاعد غليان الشعب نتيجة الاضطهاد والظلم يخرج منها طائر قوي يحلق عالياً معلناً بداية الثورة من جديد.
لهذا تمهل الرعيل الفتحاوي الأول في الإعلان عن انطلاقتهم حتى يتم خلق وحدة وطنية عريضة تحت راية حركة التحرر الوطني. فكانت بدايات الثورة بشرح الفكرة وتثقيف الجمهور بها والسعي الحثيث لتوسيعها لتشمل المثقفين والكتّاب من مختلف المذاهب والمدارس الفكرية، فكان المنشور السري ومجلة "فلسطيننا" والعديد من المقالات في الجرائد العربية وكذلك الندوات والمهرجات الخطابية والشعرية جنباً إلى جنب مع الأدب الشعبي وخاصة الزجل البلدي. فكل أدوات الثقافة كانت تُحرّض على ضرورة التحرك لتحرير الوطن وعدم انتظار الجيوش العربية حتى تصل لمرحلة التوازن الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني وكذلك الوصول لفكرة جامعة لكل الأحزاب العربية المختلفة على كل شيء.
بيد أن المحرك الفكري الحقيقي للانقلاب الثقافي الفلسطيني كان العمل الفدائي العسكري، الذي شكّل المحور الأساسي في كتابات المثقفين الفلسطينيين بالإعلان الصريح أن الوطنية الفلسطينية أكثر من مجرد سلاح، بل هي ثقافة انسلاخ عن النكبة وما شكلته من انكسار حاد بقدرتنا على التغيير. فكان الدفاع عن الفدائيين وهدفهم السامي وحق الشعب الفلسطيني أن يكون رأس الحربة في عملية التحرير هو أساس تشكيل الأفكار الرئيسة للثقافة الفلسطينية الوطنية: ثقافة تمدح العمل السري وتفخر بالعمليات العسكرية وتحرّض العرب على ضرورة تشكيل جبهة مناصرة للعمل الفدائي في فلسطين كما كانت تفعل مع ثوار الجزائر في أواخر سنوات الاستعمار الفرنسي.
صعد الفينيق الفتحاوي عالياً وأصبح يشكل رمز الحرية والكرامة في فلسطين، هذا الفينيق الذي انتظر طويلا حتى ينضم كل المناضلين الفلسطينيين تحت لوائه لكنه لن ينتظر للأبد ورفع شعار "نلتقي على أرض المعركة" بتحريض صريح أن الثقافة الوطنية لا تدعم القول بدون فعل. مما جعل العمل العسكري مقياسا حقيقيا لجدية العمل السياسي والتنظيمي، فتشكلت الجبهات والأحزاب الفلسطينية ضمن هذه الثقافة. هذا التجمهر الثوري كان بحاجة لزعيم ينظم ويدير العمل الفدائي متعدد الرايات والولاءات. فجاء عرفات بفلسفة "ديموقراطية غابة البنادق" المليئة بالمدنيين العزل وطيور الكورتزال في دمج أسطوري جمع الفينيق بالنضال الشعبي وكورتزال العمل الفردي، فهي التي رفعت الفعل فوق القول، كما أنها جعلت للكلمة قوة قتالية. فتوِّج عرفات زعيما لكل المناضلين، بل أنه أصبح أكبر من حركة فتح نفسها لإيمانه العميق بالتعددية الفكرية وأن طريق التحرير طويلة ومريرة. وقالها مراراً: لا يمكن أن أملك كل الأفكار لكننا نسمح لكم أن تجربوها ونحن ندعمكم. فكان السند لكل الأفكار الجديدة والحامي لكل المثقفين من الاستبداد العربي، حتى أن عباءته وسعت كل عشاق القلم وأبالسة الأفكار والمغامرين المتهورين وأحياناً كثيرة كان يُلام على احتضانه للفاسدين والمأجورين فكان يقول: في مسيرتنا النضالية هناك دروب موحلة لا يمكن عبورها بدون بسطار قذر وهؤلاء بسطاري فلا تلوموني ولكن لوموا وضعنا العربي المزري.
في صورة "جمل المحامل" شكّل عرفات الفينيق الفتحاوي يحمل على عاتقه كل ما هو فلسطيني من فصائل وتنظيمات فلسطينية وكذلك اتحادات ونقابات ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وأيضاً الزعامات التقليدية في المجتمع الفلسطيني وكذلك المستقلين السياسيين والنخب الثقافية والاقتصادية ليس في محيط الثورة وحسب وإنما في كل مكان يعيش فيه الفلسطينيون حتى من بقي داخل الوطن تحت ظلمة الكيان الصهيوني العنصري، ومن المتجمهرين جميعا حول فكرة الحرية والعمل الوطني. وكان يقول: لن أسمح لأحد أن يزاود على وطنية أبناء الشعب الفلسطيني فكلهم ثوار كلهم زعماء، ومن حق هذا الشعب أن يناضل بأي أسلوب يختاره وأنا مؤمن بعدالة نضاله. هذا الشعب شعب الجبارين لا يدافع عن أرضه فقط بل يدافع عن مقدساته يدافع عن الأرض العربية من المحيط إلى الخليج ويدافع عن الأحرار والشرفاء في هذا العالم.
كان الصدام الحقيقي بين الفكر العرفاتي والمثقفين بالمساحة التي صنعها لنفسه في تحقيق الوصول لهدف سياسي معين، حيث أن عرفات استخدم الدهاء السياسي بكل أساليبه من التكتيك وجس النبض والبالون السياسي ولعبة شهيرة باسم "دويخة فتح" حيث يفك عقدا مع حليف ليعقد عقدا مع حليف جديد، ثم يعيد ترميم العلاقة مع الحليف القديم، فلا حليف دائم ولا صديق دائم وإنما هي السياسة وظروفها والهدف استمرار الثورة بقرارها المستقل. هذه اللعبة فعلت الكثير في مفهوم الولاء للثورة ورفض الثوار التابعين للأنظمة العربية بل أنها شكلت متجهاً فكريا في الثقافة العربية تسمى العرفاتية تشمل كتّابا من كل بلاد العرب في ظاهرة لم يستطع أي زعيم عربي الوصول اليها إلا عرفات ولعبة الدويخة الفتحاوية.
يختصر العرفاتيةَ عرّابُها الشاعر محمود درويش: لا تقترب حد الاحتراق ولا تبتعد حد الفراق كن بينَ بينَ، لا قريبا من أحد ولا بعيدا عن أحد. فكل العرب معنا وضدنا ونحن معهم دائما. درويش هو قلم عرفات الناري وانفتاحه على الإعلام العربي والعالمي، وشعره كان ترجمة حقيقية للثورة الفلسطينية. عرفاتية درويش تظهر في الكثير من نصوصه وهو لا يخفي ذلك بل أن أهم ما جاء في رثائه لعرفات: ويبقى ياسر عرفات هو الفصل الأطول في حياتنا وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة من رماد النكبة الى جمرة المقاومة الى فكرة الدولة وفي كل واحد منا شيء منه.
لقد شكل إقرار الدول العربية أن الشرعية الفلسطينية هي بيد الفلسطينيين وأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، شكل انتصارا لفكرة الثورة الوطنية للشعب الفلسطيني والخروج من الوصاية العربية، مما أكسب النضال الوطني المشروعية الرسمية وقبول المحيط العربي بأن الشعب الفلسطيني له قيادة تمثله في المحافل العربية والدولية وتوّج ذلك بخطاب عرفات بالأمم المتحدة ومقولته الشهيرة "لقد جئتكم بغصن الزيتون في يد، وببندقية الثائر في يد. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي! لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي! لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي!
كان عرفات زعيما شعبيا من الدرجة الأولى ويعشق الالتحام مع نبض الجماهير وهو الخطيب المفضل لعموم الشعب الفلسطيني لأنه يعشق كل شيء بفلسطين. فكما ساند الكتّاب والمثقفين في أعمالهم فإنه أولى التراث الفلسطيني العناية والاهتمام، وأسس المنتديات والأندية التي ترعى التراث الفلسطيني بمكوناته كلها كالفنون الشعبية والحرف التقليدية وتناقل الموروث الثقافي عبر الأجيال في أستاذية الزعيم قائلا: هذا تراثنا عنوان أصالتنا وحقيقة تاريخنا فإن ابتعدتم عنه فقدتم جزءا مهما من فلسطينيتكم، واعلموا أن عدوكم يعمل على سرقة تراثكم، إن كانت مضيفات طيران العال الصهيونية يلبسن الثوب الفلسطيني ويقلن: هذا تراثنا، فأولى أن نعرف كل شيء عنه.. مش شغلة تطريز وبس لا إن كل ثوب فلسطيني يروي ملحمة في حب الوطن والتغني بأزهاره وأشجاره وجباله.
عرفات هو الختيار في الثقافة الفلسطينية، فهو رمزية تجمع كل الأطياف حوله تبايعه بالزعامة ليس من داخل حركة فتح بل من كل الفصائل والتنظيمات الفلسطينية، والمقولة الفلسطينية الشهيرة "عرفات زعيمنا. فقد نختلف معه لكن لا نختلف عليه" فهو فوق التصويت والترشيح فلم يتم التصويت على عرفات قائداً لثورة بل ان التزكية ومبايعة الفصائل له كانت الأسلوب الاعتيادي في دورات المجلس الوطني الفلسطيني، هذا لأنه يستحق بل أنه لم يأخذ حقه على عمله المثابر وجهده المخلص للقضية الفلسطينية، بل أنه كان يرفض مجرد الهتاف باسمه وكان يقول: لا تهتفوا لي بل اهتفوا لفلسطين والقدس..بالروح بالدم نفديك يا فلسطين..ع القدس رايحين شهداء بالملايين.
عند عرفات كل شيء يخص فلسطين فهو مهم، فخلاف داخل قيادة إحدى الفصائل يعني أن عرفات الوسيط أو أنه سيرسل وسيطاً أفضل منه، وإذا كان هناك قضية يريد أن ينشرها في الإعلام فهو من يتصل بالصحفيين والكتّاب، وإذا كان لديه شيء يخص أحد أبناء الشعب الفلسطيني فهو الأب الساهر القلق حتى يحقق لابنه مراده، وأكثر من هذا فهو رأس الحربة في قلب الهجوم وهو آخر المنسحبين لضمان بقاء الروح الثورية عالية عند عموم الشعب الفلسطيني. كم من صحفي استرسل بوصف عرفات أنه عنوان الصمود وأن صمود عرفات هو ما يجعل انكسار الفلسطينيين مستحيلا إلا إذا قرر عرفات تغيير تكتيكه والحصول على مقابل سياسي يرضي الشعب الفلسطيني!
عرفات ميّز كثيراً بين حق الثورة في الاستمرار وحقيقة أمل النصرالساكن في روح الشعب الفلسطيني، فليس الخطاب السياسي ما كان ينتظره الشعب الفلسطيني من عرفات، فهم يعرفون أننا لم ننتصر بعد وما يريدونه من عرفات جرعة أمل جديدة ومحفزات الثورية ليستمروا بالنضال فكانت خطاباته الجماهيرية من الناحية السياسية زهيدة بالأفكار الجديدة أما حماستها الثورية فهي عالية وقادرة على تحريك الجماهير بطريقة مرعبة لحلفائه قبل أعدائه. هذا هو مشعل الأمل في قلوب الثوار وفكرة الحرية في عقول المفكرين ترتسم وتبتسم مع الخطاب العرفاتي.
مجرد سؤال صغير تسأله لأي فلسطيني أو مناصر للحق الفلسطيني، ومهما كان مستواه الثقافي أو انتماؤه السياسي أو نشاطه الثوري: ماذا تفتقد بعد استشهاد ياسر عرفات؟ لن تكون الإجابة سهلة في البداية وسيتلعثم الكثيرون في حقيقة ما هو غائب من ميراث عرفات الثوري الكبير؟ فهذه الثورة ومؤسساتها، وها هو النضال يستمر وكل الكلمات لتصف أننا مازلنا مستمرين في ثورتنا. إنها وصية عرفاتية بامتياز فالعهد هو العهد والقسم هو القسم لنستمر بالنضال حتى تحرير الأرض الفلسطينية وعودة أهلها إليها لنبني الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف تحت القيادة الشرعية منظمة التحرير الفلسطينية. لكن مازال الغائب من ميراث عرفات مستترا ويخرج بحياء نريد خطاباً عرفاتياً يبث الأمل فينا ويسلحنا بعزيمة الاستمرار ووقود الإصرار وبارود الصمود حتى نكمل المشوار، نعم فنحن شعب شرقي تحركه العاطفة أكثر بكثير من الأفكار ونحن شعب عربي نؤمن بزعيم القبيلة لا بالانتخابات. قد لا يكون هذا الكلام منطقيا لكنه عرفات فوق المنطق وعنوان حقيقي لصوت الشعب الذي يعرف أن كل شيء صعب على القيادة الفلسطينية لكن أصعب شيء على الشعب أن يفقد خزّان الأمل وملهم الشعراء والمفكرين وهو قدوة كل الفدائيين هو مدرسة ننهل الأمل منها باستمرار.
قال عرفات يوما مخاطبا الجماهير: إن حياتي ليست هي القضية بل حياة الوطن والقدس- مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم ومهد المسيح عليه السلام، هذه هي القضية الكبرى التي قدّم الشعب الفلسطيني من أجلها التضحيات، قدّم التضحيات من أجل عودة الأرض والمقدسات. الفجر آتٍ آتٍ ودولتنا المستقلة قادمة مهما كانت العقبات والصعاب، وهي ليست منّة ولا هبة من أحد، فالطريق إليها عبق بأريج الشهداء وتضحيات الشعب وعطاء الجماهير، لتكون دولتنا هذه دولة تلاحم كل العرب، وسيأتي يوم يرفع فيه شبل من أشبالنا وزهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق كنائس القدس ومآذن القدس وأسوار القدس الشريف. والنصر آتٍ، النصر آتٍ، والدولة على مرمى حجر.
عرفات رسم الإطار الخارجي لحدود الثقافة الوطنية في فلسطين ونقاط تقاطعها مع المحيط العربي وإشعاعها العالمي في فهم أوسع للشعب الفلسطيني وخصوصيته الثورية التي تجمع بين العاطفة الجيّاشة ذات العنف الثوري وفن الصمود وتحمل كل شيء إلا التنازل عن حقنا الوطني. أما داخل هذا الإطار فيحلق الفينيق الفتحاوي وطيور الكورتزال وكل الفلسطينيين في ملحمة التحرير الأسطورية المستمرة حتى النصر.. حتى النصر..


بقلم: خالد أبوعدنان