في العاشر من نيسان عام 1973 وباكتمال دورة الحياة وجريان الدماء في نسغ الشجرة الفلسطينية اخضراراً وبراعم تتفتح تحمل ثمر المبادئ وتتنامى أغصانها على صفحات التاريخ الجديد لثورة شعب وجدت لتبقى وتنتصر، في ذلك اليوم استقبلت فلسطين قرابينها الثلاثة القادة الشهداء كمال ناصر، كمال عدوان، أبو يوسف النجار.

أربعون عاماً مضت على استشهاد القادة الثلاثة، ومن موقع الدور الثقافي للقائد الشهيد كمال ناصر الشاعر المثقف والإعلامي في مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة وليس تحيزاً جعلتنا نسلط الضوء على شخصية الشاعر والإنسان، المثقف والملتزم حتى الرمق الأخير بقضية شعبه وثورته مجسداً بالممارسة وفي مواقع النضال دوره الطليعي رغم كل المصاعب على طريق الآلام الفلسطينية.

ولد كمال بطرس ناصر في العاشر من نيسان عام 1924 في مدينة غزة حيث كان عمل والده. ولكنه بالأصل من مدينة بيرزيت التي تبعد اثني عشر كيلو متراً عن رام الله. وهي بلدة جميلة تشتهر بالعنب والزيتون وكرمز للتعايش بين الأديان.

كان كمال ناصر في الثامنة من عمره تتفتح عيونه ومداركه على ما يجري في وطنه، ويدرك بأحاسيسه الظلم الذي يمارس على شعبه.

في العاشرة من عمره قاد المظاهرات مع أترابه ضد الانتداب البريطاني مطالبين برحيله، وبما أن تلك المرحلة وما شهدته من غليان شعبي ضد الهجرة الصهيونية إلى فلسطين بموافقة الانتداب البريطاني اندلعت ثورة 1936 التي اعتبرت من أعظم الثورات الشعبية التي عمت كل فلسطين كان كمال ناصر وجد نفسه مراسلاً للثوار ومع رفاقه الصبية ينقلون الطعام للثوار في معاقلهم، وقد شكلت تلك المرحلة محطة وطنية في مسيرته النضالية وخاصة عندما راح رهينة لشرطي بريطاني حين خاطبه مترجماً أحاسيسه وانتماءه، لن يسرقوا وطني وأنا مكتوف اليدين، وقد ترجم كمال ناصر ذلك المشهد شعراً حين قال:

مأساة هذا الشعب مأساتي

وجراحه الثكلى جراحاتي

أنا بعض ما ينساب من دمه

وكأنه من بعض آهاتي

قدران في درب المنى اعتنقا

هيهات ينفصلان هيهات

نشأ كمال ناصر طفلاً مدللاً في أحضان أسرة تقية تدين بالمحبة وتنهل من العلم، وكان لأسرته مكانتها الاجتماعية، هذه النشأة جعلته ذا شخصية خالية من العقد، وليس رجلاً غامضاً، فيما يفكر أو يكتب أو كيف يتصرف، وقيل عنه أنه كتاب مفتوح يقرؤه كل من يرغب في قراءته. وقد بكى مرتين في حياته، يوم استشهد غسان كنفاني، وفي المرة الثانية عندما جاءت أمه من بيرزيت، لقد سافرت، عندما ودعها شعر أنه الوداع  الأخير، وبكى يومها كمال..

أحب الحياة العائلية التي حرم منها ووجدها في أصدقائه ومحبيه، يتعذب بصمت ويكبر على جراحاته، وأحب الله فكان التقي كأبناء القرى الطيبين، يصفه أحد أصدقائه بالحمامة البيضاء، الثائر ضد كل قيد حتى العائلي، وكان الوجه الحضاري للثورة الفلسطينية وإطلالتها المشرقة، وقيل عنه بالفراشة الثائرة، أحب الأطفال والموسيقى، يكره الإدعاء والغرور ولا يناور.

النضال الملتزم:

توَّج كمال ناصر بداية نضاله السياسي بإصدار جريدتين تعبران عن مفاهيمه السياسية، إلا أن ظروفاً قاهرة مادية ومعنوية حالت دون استمرار صدورهما، وقرر السفر، وحطَّ به الترحال في الكويت العام 1953 مقرباً من الشيخ فهد السالم الصباح ومستشاراً له لمدة ثمانية أشهر، عاد ثانية إلى مسقط رأسه بيرزيت ليصبح في العام نفسه نائباً في مجلس النواب الأردني عام 1956 مرشحاً عن حزب البعث. في عام 1967 احتلت الضفة الغربية أبان نكسة الخامس من حزيران، وقد شكل كمال ناصر مع إخوانه من قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية اللجان الشعبية السرية التي تقاوم الاحتلال ومعالجة الشؤون العامة للسكان، وكان ذلك العمل منفصلاً عن العمل التنظيمي والعسكري والإرهاصات الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة التي كانت تبني خلاياها على أرض الوطن.

شكلت معركة الكرامة الخالدة في 21/3/1968 منعطفاً رئيساً في حياة كمال ناصر الذي التحق مباشرة بالثورة الفلسطينية مباشراً عمله السياسي الذي كان يستهلك معظم وقته.

بعد أربعة أعوام على انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة ومع أول إطار قيادي اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية انتخب كمال ناصر رئيساً لدائرة التوجيه والاعلام، آمن كمال ناصر بتكامل القلم والبندقية وجسّد إعلامه الثوري مشيراً إلى أن الثورة هي التي تصنع إعلامها، وهي التي تصنع الإعلام المقاتل، وقد أهله دوره المؤثر أن يصبح الناطق الرسمي باسم القيادة الموحدة لحركة المقاومة الفلسطينية.

كلفه الرئيس الشهيد ياسر عرفات بالإشراف على تشكيل الاتحاد العام للصحفيين الفلسطينيين في 9/2/1972، كما كان له الدور الأبرز في تشكيل الإعلام الموحد لمنظمة التحرير الفلسطينية، ونشاء وكالة وفا الإعلامية.

لا يمكن في مقالة صغيرة أن نفي الشهيد القائد السياسي والشاعر الثوري كمال ناصر حقه وأن نحيط بكل جوانب حياته ومحطاته المثيرة بتجربة تستحق الوقوف عندها ودراستها من كل جوانبها، ويمكن القول أنه القائد الإنسان، الوطني والثوري الملتزم، الشاعر والأديب المتعلق حباً وشغفاً بوطنه وحقوقه المشروعة المتسلح بكل أدوات النضال والثابت على الإيمان ضمير الوطن والثورة، الراسخ العقيدة بالمبادئ والأهداف، الصحافي الذي دفع بالعمل الإعلامي الثوري إلى واجهة الميدان، والشاعر الذي كتب للوطن والثورة والشعب.

يقول كمال ناصر.

لن نستريح... والشعب دامِ جريح... والقيد في المعصمِ... والحقد ملء الدم... ودربنا شاحب الأنجم... يجترنا حاقد أعجمي... فيا شعوب أحمدي... ويا خرائف أحقدي... فكلّنا في غمرة المقصد... مواكب حاقدة تعتدي.

بعد أربعين عاماً على غيابه يبقى كمال ناصر أمثولة الثائر الملتزم والشاعر الوطني الذي كان يردد دائماً إذا جاء الصهاينة فلن أهرب ولن أؤخذ أسيراً. وسخر من الموت كما سخر من الخوف.

الشاعر الإنسان عاشق فلسطين والعصافير الملونة والأطفال الصغار.

كان مؤمناً بالله وبعدالة القضية الفلسطينية وبالنصر الأكيد.