كان يحلم وكنا نصدقه. كنا نعرف أن الطريق وعرة وأن المسيرةشاقة وأن العدو جبار وقدراته مهولة، وأننا ضعفاء إلا بقوة حقنا وإرادتنا، كان العالميتآمر علينا والأصدقاء والأشقاء والجيران والمضيفون، والدول والمؤسسات والهيئات والقراراتوالقمم والتوصيات كلّها كانت تتآمر علينا، وكانت حلكة الليل شديدةً لكنه كان يقول لناإننا سنصل وكنّا نصدقه. كان يحلم، يأخذنا معه في أحلامه، يرسم لنا عالم الغد حين تتحررفلسطين وكنا نصدقه. لم يتسلل إلينا شك لو لدقيقة أو لحظة حتى في أشد الأوقات صعوبةفي أنه يقول الحقيقة. أنه يعدنا بما لنا وبما نقدر عليه، وبما لا نقدر عليه، لكننانقدر في النهاية. كان ياسر عرفات التجسيد الحقيقي والفعلي للحلم الفلسطيني، دموعه تنهمرعلينا حين نتألم، جسده يرتجف كرعشة العاشق لكنه لا ينهار، وهو يرى بؤس حالنا، لكنهوحده كان قادراً على حمل الأمل عالياً حتى يحس بدفئه جميع الفلسطينيين أينما كانوا،طاقته الإيجابية حتى وهو يضع وجهه بين كفيه غارقاً في التبصر في المستقبل، كانت تلكالطاقة تشع نوراً يضيء حلكة الظلام. كنا نعرف قسوة الواقع وصعوبة الحياة وكنا نعرفأننا شعب يواجه عالماً مدججاً بالكذب والروايات المغلوطة والأساطير العفنة، كما هومسلح بالقرارات والمواقف، كما بالسلاح والقنابل، لكننا كنا نعرف أننا على حق وكان يقوللنا إننا على حق وإننا سننتصر. لم يكن يوجد ما يدلنا على واقعية ما يقول في مرات كثيرةإلا إحساسنا بأنه صادق معنا وأنه صادق ونصدقه وأنه يقصد ما يقول.
وحين كان يقول لنا إن الدولة على مرمى حجر فيما نحنعائدون من أزقة المخيم بعد نهارات موجعة من المواجهات وقذف الجنود بالحجارة، كان يمديده ويقول عبر شاشة التلفاز إن الدولة على مرمى حجر، وقتها كنا نرى الدولة على طرفإصبعه وهو يشير إلى هذا المرمى.
نعرف مرات أن المنطق يقول عكس ما يعد، وأن الواقع أشدقسوةً من نور البشارة، ونحس بأن ثمة ما ينافي ما يحلم به، لكننا كنا نقتنع في النهايةبأنه يقول الحقيقة وأن ثمة ما يمكن أن يكون أكثر واقعية من قسوة الواقع وأن البطش والظلموالجبروت لا يمكن لها أن تهزمنا. لم نكن نعرف سبباً لذلك، لكننا على الأقل كنا ندركأن وجوده هو السبب، وأن ثمة حقيقة غير منطقية هي من تحيل هذا اللامنطق إلى منطق، وهيمن تعيد صياغة الواقع حتى يصير جزءاً من حكاية غير معقولة، لكنها أصل العقل وجوهر المنطق.
كان يمكن أن تجده في أي حكاية أسطورية، في ملحمة كنعانيةأو بابلية أو يونانية. عالمه الخاص، حكاياته الشخصية، قصص الناس عنه، مواقفهم معه،وصفهم له، شكله، فعله، تصرفاته، حركة يديه، نظرات عينيه، دقات قلبه، كلها ليست إلاتوصيفاً لعالم تقول بينك وبين نفسك لا يمكن أن يحدث، لكنه يحدث بيننا. فهو مثل كل الأبطالالاسطوريين حالم مفعم بالأمل. المنطق ما ينطق به وما يقوم بفعله، أما قوة الطبيعة وجبروتالواقع فهي ليست إلا عقبات يمكن له أن يذللها بسحره الأسطوري، بأفعاله الخارقة. والأبطالالأسطوريين كما نعاه درويش لم يكن يليق بهم إلا الموت في وسط الأسطورة. لا يمكن للبطلالأسطوري أن يموت خارج الحكاية، لذا لم يكن يليق بعرفات إلا أن يستشهد في موت مهيبأوقف العالم ولم يقعده حتى الآن. هذا ما يليق بعرفات، فرجل نذر العمر للبندقية وللمواجهةلا يموت على فراش الموت طريحاً عجوزاً. الأبطال يموتون وهم في ذروة التحدي والكبرياءوالمواجهة، وهم في حبكة الحكاية.
وحده يعرف كيف تثور الناس من كلماته، ووحده يعرف كيفيهدئ من روعهم ويخفف عنهم. كان هو باروميتير الحالة الفلسطينية، مقياسها الأصوب. المعبرالحقيقي عن فلسطين، والناطق الرسمي والشرعي باسمها. كان فلسطين وكان وجهاً من وجوهها.ارتبط بها وارتبطت به. ويمكن لأي واحد منا أن يروي ألف حكاية عن هذا الرابط السحريوالسري بين الرجل وفلسطين، فالناس تعرف فلسطين منه وتعرفه، فترى فلسطين في جدلية وثنائيةمهولة من التماهي والعشق والتضحية. في شارع تقسيم في إسطنبول وقف رجل عجوز يسألني عنشيء. بالطبع لم يكن لي لأفهمه فهو يتحدث بالتركية. وأمام هزة كتفي سألني بالإنجليزيةفأجبت، فبادر بالإنجليزية أيضاً: من أين انت؟ فقلت بالإنجليزية Palestine. لميعرف فسأل مرة أخرى فاستدركت فقلت ما سمعته بالتركية ، فيليسطين ،كما ما يلفظونها.فقال وهو يستدير ،عرفات ترحمت الله ترحمت الله. ومضى.
كان واحداً منا. لم يؤلف رواية أو حكاية مزعومة عن أصلنبيل أو ميراث أسطوري، خرج من عباءة النكبة والتشرد، كما لم نقابله في مؤتمر أو خلفشاشة تلفاز. فجأة وجدناه بيننا يتحدث عنا ومعنا، له ما لنا وعليه ما علينا. له روايتهمثلنا عن كل لحظة من لحظات العمر المرير الذي عشناه حين اقتلعنا من أرضنا. تارة تجدهفلاحاً ترك موسم القطاف وخرج تحت تهديد السلاح، وتارة تجده بحاراً تاه مركبه عن مرفأيافا، أو راعياً في صحراء النقب التهم ذئب المستعمرين خرافه ليلة العيد.
وفي كل واحد منا شيء منه، القليل أو الكثير ... إنههذا الشيء الأصيل الذي يشكل جوهر الوطنية التي مثلها عرفات وتمثلها وكان له فضل كبيرفي التعبير عنها. اختلف معه الكثيرون وزعل منه الكثيرون وربما شعر البعض بأنه قد يقسوعليهم، وانتقده آخرون وآخرون لكنه ظل الكل الجامع، الشخص الذي لا يختلف عليه، الرجلالقادر على لملمة عباءة الشعب والسير بها في قلب العاصفة. كان صادقاً ومخلصاً. لم يكننبياً يقدر على كل شيء، فكان بشراً يخطئ ويصيب يجتهد ويقوم بما يعتقد ويعتقد الجميعأنه الصواب، لكنه كان يفعل كل ذلك عن قناعة وبكل سعادة. يقبل قدم الجريح ويبكي الشهيدويودع رفاق السلاح وهو ينظر في غيم المستقبل يعرف أنها طريق طويلة لكن السير فيها انتصارلفلسطين. قهر المنافي وعاد ثم عاد ثم عاد محمولاً على الأكتاف. في مثل ذلك اليوم لتبكيفلسطين
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها