"قصة الثائر محمد محمود أبو جلدة" عنوان الكتاب الجديد للكاتبة الفلسطينية حنان بكير (دار نلسن) وفيه تستعيد سيرة المناضل الفلسطيني انطلاقاً من رواية كتبت عنه ونشرت في «اللطائف المصورة». والكاتبة من مواليد مدينة عكا، نشأت في بيروت قبل أن تغادرها، حيث تعيش اليوم في النرويج. عملت في التدريس والصحافة، قبل أن تبدأ الكتابة الأدبية. روايتها هذه تستعيد سيرة أبو جلدة، ومعها أجواء مدينة نابلس قبل سقوطها. معها هذا الحوار:

 

المناعة

ما بين بيروت واليونان وأوسلو، أمكنة متفرقة تعيشين فيها، هل أغنتك عن المكان الأول عكا؟ وهل أثرت هذه الأماكن في تجربتك الكتابية ولغتك؟

^ رحيل.. رحيل.. ملعون هذا العمر الذي انتهى بمثل ما بدأ به.. رحيل يسحب رحيلا إلى مناف لا نهاية لها! وهذا الارتحال المتواصل، وتغيير الأمكنة، وفي كل مكان نبني فيه صداقات وأحبة، ثم ما نلبث أن نغادرهم ونضيّعهم ويصبحون طيّ النسيان! إنه شيء مؤلم. تربطني بكل هذه الأمكنة عاطفة خاصة. بيروت التي جئتها طفلة حديثة الولادة، عملياً هي الوطن العملي والفعلي الذي عرفته. لكننا نخشى البوح بحبه! كتبت في إحدى مقالاتي: «أحبّ لبنان بصمت عاشقة في مجتمع مرتاب، حتى لا يفهم أننا نريده وطنا بديلا». اليونان البلد الجميل أحببته منذ وعيت واطلعت على الأساطير اليونانية. وأهله يشبهوننا، ولكن بطبعة منقحة. أما النرويج.. وأنا أحمل جواز سفر نرويجي.. فأنا أعتز بالانتماء إليه.. فهو اعترف بي أنني أنتمي إلى فصيلة البشر والبني آدمين.. أصبحت بفضله محترمة في المطارات وعلى الحدود.. ولا أخشى من أيّ مكروه يصيبني في أي مكان في العالم، لأن لي دولة تحميني! كما قدمت لي الفرصة لنشر مقالاتي، وتقديم محاضراتي، حتى في أرقى الدوائر الحكومية والثقافية. إذن هذا الارتحال، والإطلاع على ثقافات مختلفة، أثرى تجربتي الكتابية، وإن كنت قد عانيت من «شيزوفرينيا» كتابية طبعاً.. وتشتت جهودي. لكن على صعيد اللغة، أيضا أثّرت بي، سواء في كتابة المقالة أو القصة! من حيث الاختصار وعدم اللف والدوران حول الفكرة لإطالة المقالة، والابتعاد عن الإنشاء، والذهاب إلى الفكرة مباشرة.. لكني ورغم الحب الذي أكنّه لتلك الأمكنة، تبقى عكا، هي هاجسي الأكبر! وهي تحضرني، في كل المواقف وكل المناسبات، ومن يتابع مقالتي الأسبوعية في صحيفة الحياة الجديدة يدرك ذلك! ولو سألتني يا صديقي: أين تودين أن تقضي ما تبقى لك من عمر؟ لقلت لك: في عكا!

تعتبرين واحدة من الناشطات في مجال تدوين الذاكرة الفلسطينية، كيف يمكن تفسير ذلك: أهو واجب أم ماذا؟

حكايتي مع الذاكرة بدأت مبكرة، نتيجة علاقتي المميّزة والحميمة مع والدي، واستماعي لحكايا عكا والبحر والدفاع عن المدينة، حيث شارك في كل الثورات قبل النكبة. وكانت وفاته بمثابة خسارة لعكا ايضا فخفت عليها من الضياع.. عكا هي أبي الذي مات ولا أريد لذكراها أن تدفن معه. لأنها فعل عاطفة واندفاع روحي.. ومن ناحية أخرى هي واجب اتجاه الأجيال القادمة.

روايتك «أجفان عكا» تعكس صدمة حقيقية بالنسبة إليك، إذ لا تجدينها مدينة الذاكرة، ولا تجدينها أيضا المدينة التي يمكن لها أن تؤويك، هل على الشرط الفلسطيني اليوم أن يقف حائراً بين أزمنة عدة؟

هذا السؤال، يطرح إشكالية كبيرة... وهو موضوع العلاقة الملتبسة مع المكان ومع أهلنا في فلسطين المحتلة العام 48.. أبي أتيحت له فرصة زيارة مدينته التي قضى عمره يحكي عنها ولا يملّ! لكنه رفض. كان ذلك العام 1982. لم أفهم موقفه آنذاك! سمعت عن عدة نساء ورجال من عكا.. زاروها وأصيبوا بحالة اكتئاب وماتوا بعد عودتهم منها! ابوجابر العكاوي في الرواية هو كل هؤلاء الذين قضوا أسى وحزناً، لأنهم لم يجدوا روح المدينة! المدينة لم تتغيّر. لكنها فقدت روحها التي هي ناسها وأهلها. أورثني أبي حيرته وقلقه.. لكني وبعد أن زرت عكا والقدس وبيت لحم ورام الله.. والتقيت بشعبي وناسي هناك.. حسمت الأمر ولم أعد حائرة.. نعم لزيارة مدننا والتواصل مع أهلنا.. ولكن بشروط وبرفع مستوى المناعة لدينا.. هل ترى يا عزيزي اسكندر، أن أملا يلوح في الأفق العربي؟؟ الأقنعة العربية سقطت، و«شرش الحياء» طق عندهم.. ولم تعد كلمة «إسرائيل» كلمة منفرة! هل تعرف ما الذي فعلته الزيارة بي؟ وأنا آخر جيل ولد هناك.. أصبحت ذاكرتي حسيّة وملموسة وحيّة.. وليست وجدانية دخلتني وتلبّستني عن طريق ابي وأصحابه! ماذا تخمّن أني فعلت حال مغادرتي المطار في تل الربيع؟ وقفت أتأمل السماء والطرق والأشجار.. أخذت نفساً عميقاً من هوائي وصرخت بعالي الصوت: يا أطفال المخيمات.. ها هو وطنكم أرض وبحر وجبال وسماء وهواء وعصافير.. يشبه كل الأوطان.. وطنكم ليس خيمة أو مخيماً! كيف لي أن أصف لكم الوطن؟ ورحت في بكاء طويل... من هنا حسمت أمري وتغلبت على حيرتي!

 

بطل شعبي

تعكفين حالياً على كتابة رحلتك إلى مدينتك، عكا، كيف تفترق مع روايتك؟ وهل هي مناسبة للحنين أم لتدوين ذاكرة ما؟

الرواية التي أعكف على كتابتها عن رحلتي لفلسطين.. هي روايتي أنا! بطلة «أجفان عكا».. هي ليست أنا ولا تحمل سيرتي إطلاقا، ولكن هناك إسقاطات من شخصيتي على شخصية البطلة.. مثل علاقتها المميّزة مع والدها، وتعلّقها بمدينتها من خلال حكايا الوالد.. وطموحها واعتدادها بنفسها وحبها للأناقة. أما الرواية الثانية، فهي عن زيارة مسرح حكايا أبي وأصحابه.. الذين صاروا أصدقائي.. وقد أفدت من المقابلات التي دوّنتها لهم. الفرق قد يكون: أن أبي رفض الزيارة، لأنه لا يحتمل رؤية أناس احتلوا ارضه وسماءه وبحره.. أبي رحل.. وأنا زرت عكا فازددت تعلقاً بها وإصراراً على حق عودتي.. كانت عكا مكاناً رومنسياً لا وجود له الا في الوجدان ونبت من حكايا كبار العكيين وعالم « فيري تيلز».. لكني وجدتها مكاناً يستحق التضحية من أجله! الرواية هي حنين وهي ذاكرة أصبحت حيّة، في مواجهة ذاكرة مفبركة!

كتابك الصادر حديثاً «قصة الثائر أبو جلدة»، ما الذي شغلك بهذا الموضوع؟ تعتمدين في روايتك على سيرة الثائر كما جاءت في مجلة «اللطائف المصورة» لكن أيضاً تقدمين رؤية ثانية منتقدة لها، أين تقع الحقيقة في الكتابة؟

كتاب «حكاية الثائر محمد محمود أبو جلدة» كتاب أردته للناشئة من أجيالنا. كنت صغيرة عندما سمعت أبي يتحدث مع أصدقائه عن شخصية الثائر «أبو جلدة». وسمعت تضارب الأقوال فيه. لكن بطولاته علقت بذهني، كيف أنه «كيّع» الإنكليز! ولاحقاً عندما شاهدت فيلماً عن روبن هود، تذكرت الثائر الفلسطيني. وحين حصلت على نسخة الجريدة منذ أكثر من عشرين سنة من صديقتي ليلى سليمان.. احتفظت بها الى حين أجد طريقة لنشرها والإفادة منها في إزاحة الغبار الذي غطّى سيرة بطل شعبي لا يقل شجاعة وشهامة عن روبن هود. ومن خشيتي عليها كنت أحتفظ بها معي حيثما ارتحلت! الى أن وجدت فرصتي بأن أنشرها في كتاب، مع فصل يوضح الإشكالية في شخصيته وفي التعاطي معها، كون السلطات المحتلة في ثلاثينيات القرن الماضي، قد عمدت الى تشويه سمعته، ووصفه بقاطع طريق ولص... ولكن لا يوجد أي تناقض بين رواية الوثيقة وبين عرضي لموضوع التشويه.. الذي لحق السيرة. وأشرت أيضاً الى أن من وشى بالثائر هو رفيقه ونائبه العرميط، بينما لم أسمع بهذا الإتهام الموجه للعرميط شفاهاً، فقط علمت أن أحد أصدقائه قد أوقع به! وكذلك استخدام المرأة اليهودية «إليكرا كوهين» للإيقاع به، لكنها أعجبت به وساعدته. الثائر أبو جلدة، ابن قرية طمّون قضاء نابلس.. شخصية تستحق أن تنال الاهتمام والتكريم.. ولا بأس من أن تتحوّل الى أسطورة، كما هي شخصية روبن! أعتقد أني الآن قمت ببعض واجبي اتجاه الثائر!!

أجرى الحوار: اسكندر حبش