بقـلم/ صقر أبو فخر

قضية فلسطين غير قابلة لأي حل سلمي في هذه الفترة المضطربة والسديمية التي تلف العالم العربي بأسره، فها هي الحرب الباردة تعود مجدداً من البوابة السورية، وتحتدم بشدة في شرق أوروبا عند البوابة الأوكرانية وعند أقدام مياه البحر الأسود. وتشهد المنطقة المترامية والممتدة من السودان إلى تخوم القوقاز انفجارات غير مسبوقة في جميع الاتجاهات: مشكلة جنوب السودان، معضلة الحكم والاستبداد في الدول الملكية العربية غير الديمقراطية، الجماعات التكفيرية في كل مكان، مشكلة المسيحيين العرب والأقليات، مشكلة الغاز والنفط وأمن خطوط الإمداد، مشكلة الأكراد، مشكلات التحول إلى الديمقراطية، الإرهاب والفقر والهجرة، اللاجئون وقضايا الاستيعاب، علاوة على المشكلات الثابتة كالتنمية والاسكان والتعليم والعمل والحريات والعنصرية وصراعات الطوائف والمذاهب وغيرها.

في هذه البلبلة الكونية تبدو قضية فلسطين وكأنها ما عادت قضية العرب الأولى، بل اصبحت واحدة من القضايا الكثيرة، ولا سيما أن هناك ميلاً، للأسف، لدى كثيرين من العرب، حكاماً وأمراءَ وملوكاً، للتخلص من عبء القضية الفلسطينية. والرئيس محمود عباس يدرك تماماً هذا التشابك المؤذي، ويعرف أن لا حلَّ لقضية فلسطين في هذه الحقبة العسيرة. لكنه يدرك أيضاً مقدار العبء الكبير الواقع على الشعب الفلسطيني وعلى السلطة الفلسطينية، وأنه عالق في وضع لا يستطيع معه أن يرفض الاستمرار في التفاوض المضني مع المحتل الاسرائيلي، وعليه أن يستمر في السير متعرجاً في حقول الألغام أو بين حبات المطر.

ماذا تريد اسرائيل من المفاوضات؟ يبدو هذا السؤال ساذجاً تماماً، والجواب عنه أكثر سذاجة لأنه صار معروفاً للجميع. ومع ذلك لا بد من إعادة اكتشاف التحولات في الموقف الاسرائيلي التي يُعاد صوغها دوماً بحسب الايقاعات السياسية في المنطقة المحيطة بفلسطين. ومما لا ريب فيه أن إسرائيل تريد عدم الوصول إلى أي اتفاق مع الفلسطينيين إذا لم يضمن اعتراف الفلسطينيين والعرب بيهودية الدولة الاسرائيلية، وحل مشكلة اللاجئين خارج "حدود اسرائيل"، وان تكون الدولة الفلسطينية المقبلة منزوعة السلاح وخاضعة للرقابة على أجوائها ومعابرها البرية والبحرية (أي بلا سيادة) وأن تبقى القدس موحدة وعاصمة لإسرائيل، وأن تُضم الكتل الاستيطانية الكبرى إلى دولة اسرائيل، وأن يبقى الجيش الاسرائيلي في الأغوار.

هذا حل مستحيل، ومن المحال أن يقبل به أي فلسطيني. وما بين الرؤية الاسرائيلية  للحل، والرؤية الفلسطينية، هوة لم تتمكن المفاوضات المباشرة من ردمها طوال عشرين عاماً، ولن تتمكن أبداً كما يلوح لي.

* * *

في التاسع والعشرين من نيسان 2014 انتهت مهلة المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية من دون تحقيق أي إنجاز جوهري. وحاول وزير الخارجية الأميركي جون كيري أن يفرض اقتراحاً على الجانب الفلسطيني لإنقاذ المفاوضات، وانقاذ الدبلوماسية الأميركية في آن. وقد هدد الرئيس محمود عباس بحل السلطة الفلسطينية إذا تمادى الأميركيون في الضغط على الفلسطينيين، وإذا استمر الاسرائيليون في مواقفهم غير المقبولة على الاطلاق. والتهديد بحل السلطة ليس موقفاً استعراضياً البتة، إنما هو ورقة سياسية يمكن، بالفعل، استخدامها في  لحظة مواتية. وحل السلطة لا يؤدي، كما يرغب بعض الأطراف الفلسطينية، إلى دولة ثنائية القومية، بل إلى ما يشبه نظام الفصل العنصري الذي عرفته جنوب افريقيا. وقد تحمَّل الرئيس أبو مازن ومعه السلطة الفلسطينية وحركة فتح ضغطاً هائلاً لتسهيل الاعتراف بيهودية دولة اسرائيل، لكنه رفض ذلك بوضوح، ليس لأن الاعتراف بيهودية اسرائيل من شأنه التأثير في مكانة عرب 1948 فحسب، بل، وهذا هو الأهم، لأن المنطقة العربية بهوية عربية تصبح اسرائيل فيها كياناً غريباً، لكن هذه المنطقة نفسها بدول طائفية متصارعة، تصبح اسرائيل فيها دولة عادية، بل حليفة لبعض الدول الطائفية الأخرى. وهذا الموقف، ببعده الاستراتيجي والقومي، هو الذي أغضب الاسرائيليين أيما غضب، فهددوا بإنزال عقوبات مؤلمة بالسلطة الفلسطينية، وأوقفوا عملية إطلاق الأسرى.

إن الاقتراح الأميركي لإنقاذ المفاوضات، بحسب بنوده الستة غير المعلنة، هو مجرد اجراءات، ولا يتضمن حلاً من أي نوع قط. فهو يقترح أن تفرج اسرائيل عن الدفعة الرابعة من الأسرى بمن فيهم 14 مواطناً فلسطينياً من عرب 1948؛ وأن تفرج اسرائيل لاحقاً عن  نحو 450 أسيراً آخر "ممن لم تتلطخ أيديهم بدماء الاسرائيليين" بحسب التعبير الاسرائيلي، وفي هذه الحال يمكن التفاوض على إطلاق مروان البرغوثي وأحمد سعدات وفؤاد الشوبكي وغيرهم؛ وتجميد الاستيطان خارج القدس واستمراره في الكتل الاستيطانية الكبرى؛ وتفرج الولايات المتحدة بصورة متزامنة عن الجاسوس جوناثان بولارد؛ ذلك كله لقاء تمديد المفاوضات عاماً إضافياً، والتزام الفلسطينيين عدم استغلال عضويتهم في المعاهدات الدولية تقديم دعاوى جنائية ضد اسرائيل.

* * *

سواء توقفت المفاوضات أو استؤنفت، فليس هذا هو المهم. المهم حقاً هو معرفة إلى أين نتجه في سياق انفجارات المنطقة العربية كي لا تصبح قضية فلسطين في المستقبل مثل القضية الأرمنية. ومن الواضح أن المشكلات المحيطة بنا لا تتجه نحو الحلول الجذرية والثابتة، بل نحو الحلول الموقتة. وأمام أعيننا المشروع النووي الايراني والموضوع السوري كمثالين كاشفين. ولعل أفضل وضع لإسرائيل هو إعلان فشل عملية المفاوضات بطريقة حاسمة، الأمر الذي يتيح لها أن تبادر إلى ضم 40% من الضفة الغربية، ما يعني قيام دولة موقتة فلسطينية على المساحة الباقية من الضفة. وهذا ما قاله إيهود باراك أمام مؤتمر "أيباك" في واشنطن في آذار 2013، فأوضح ان التوصل إلى سلام شامل مع الفلسطينيين أمر مستحيل. وعلى اسرائيل اتخاذ خطوات من جانب واحد لمنع الانزلاق نحو دولة ثنائية القومية.

ربما تبدو هذه الصورة كابوساً لمستقبل النضال الفلسطيني. لكن، من وجهة نظر مقابلة، قد تكون هذه الصورة مجازاً إجبارياً قبل انبلاج صبح الدولة الفلسطينية الحرة والمستقلة. دولة جديدة في المنطقة؟ وفلسطينية وحرة ومستقلة أيضاً؟ إنه حلم يقارب الاستحالة. ولكن، لِمَ لا؟ نعم، دولة جديدة على غرار دولة جنوب السودان. لنتذكر ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية؛ فقد كان الألمان يحتلون 90% من المدينة. وفي لحظة ما، تحول هذا الاحتلال إلى هزيمة ساحقة، وتمكن الـ 10% من الانتصار، وكان شعار المحاصرين: "لا أرض لنا وراء الفولغا". هكذا قاتلوا فوق آخر أرض لهم وانتصروا. وفلسطين هي آخر أرض للفلسطينيين في خضم ما يجري حولهم.