بعد مرور نحو ربع قرن على قرار المجلس الوطني الفلسطينيعام 1988 في الجزائر، بالإعلان عن خيار الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدسالشريف على خط الرابع من حزيران 1967، وعودة اللاجئين، وبعد واحد وعشرين عاماً علىمدريد وتسعة عشر عاماً على أوسلو، وبعد انقضاء عشر سنوات على أول اعتماد دولي لمصطلحدولتين لشعبين، فقد هذا المشروع الذي لم ير النور بتاتاً قوة اندفاعه الأولى وذوى تدريجياً،بعد أن ظل لفترة طويلة يزرع الأمل بحل عادل وسلام شامل في المنطقة، ويلهم القادة والدبلوماسيينوالمفكرين والصحافيين، ويستقطب الاهتمام به كفكرة تستبطن حلاً يمكن إنضاجه بالقليلمن الخلاف حول شيطان التفاصيل الصغيرة.

ومنذ ذلك الوقت كان مشروع حل الدولتين المتجاورتين لشعبينفي أرض واحدة، بمثابة الأساس لكل جهود السلام المبذولة، إن لم نقل كخيط ناظم لسائرالمبادرات والمساعي الدبلوماسية المبذولة على هذا الصعيد، لا سيما من جانب الرباعيةالدولية، والولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، حيثكان أول من اشتق هذا المصطلح السياسي وروج له بقوة، الرئيس الأميركي السابق جورج بوش،ووزير خارجيته الجنرال كولن باول ومستشارة الأمن القومي حينئذ كونداليزا رايس، بعدمرور أقل من عام واحد على واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي غيرت وجه العالم كله.

وفيما تم تلقي هذا المشروع من جانب معظم الفلسطينيينوالعرب، باعتباره حلاً معقولاً يكتسب قيمته الأساسية من كونه حلاً وسطاً بين المواقفالمتصارعة، ومبادرة أميركية خالصة، جرى التنويه بها والثناء عليها من جانب مختلف القوىوالعواصم النافذة، بينما كانت إسرائيل في عهد أرئيل شارون الذي كان شرع لتوه في حربعدوانية شرسة ضد الانتفاضة الثانية، وسوّق إعادة احتلال الضفة الغربية كجزء من الحربالكونية ضد الإرهاب، أخذ يتعامل مع هذه المبادرة الأميركية التي لا يمكن له رفضها،بسلسلة من التحفظات والمراوغات المعهودة، يقبل بها لفظياً ويعمل في الوقت ذاته علىوأدها، من خلال الاستمرار في تصعيد عملية خلق الحقائق الاستيطانية التي تتكفل وحدهابإفشال حل الدولتين من أساسه.

ولا يتسع المقام هنا لاستعراض فيض من الممارسات الإسرائيليةالتي عملت على نحو منهجي منظم دون نقل مشروع حل الدولتين من الحيز النظري المجرد إلىأرض الواقع العملي، سواء أكان ذلك في عهد شارون، أو في عهد خلفه ايهود أولمرت، أو فيأيام بنيامين نتنياهو الذي لم ينطق بحل الدولتين سوى مرة واحدة في خطابه الشهير فيجامعة بار إيلان وبشكل مراوغ، وذلك من أجل احتواء ما بدا أنه ضغط أميركي ثقيل الوطأة،لاح في الأفق البعيد من خلال تصريحات الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، الذي كانمفعماً بالأمل والنوايا الحسنة، قبل أن يرده الواقع السياسي الأميركي وضغوطات اللوبياليهودي في الولايات المتحدة على عقبيه، مثقلاً بخيبة الأمل والقيود والضغوط الداخليةالمضادة.

وكان مشروع حل الدولتين هذا موضع البحث الأساسي في مؤتمرأنابوليس الذي التأم في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس جورج بوش الثانية، ومثّل هذاالمشروع أيضاً الأرضية السياسية التي انعقد عليها ذلك الاجتماع، بحضور نحو خمسين دولةومنظمة دولية، وشكل قاعدة التفاهمات العريضة التي جرت في فضائها المفاوضات الثنائيةلنحو عام لاحق، دون التوصل إلى نتيجة حاسمة تقربنا خطوة يعتد بها على طريق وضع حل الدولتينموضع التطبيق على الأرض، إن لم نقل عدم التمكن من إغلاق أي من الملفات المطروحة علىمائدة التفاوض.

فقد حشدت حكومة أولمرت الذي كان رئيساً لبلدية القدسالمحتلة سائر المصاعب والمعيقات أمام كل إمكانية لإنجاح تلك المفاوضات، سواء أكان ذلكعبر موجة عارمة من عمليات استيطان مركزة داخل مدينة القدس وفي محيطها المجاور، أو كانعبر سلسلة من الانتهاكات والمراوغات السياسية المصممة أساساً للتهرب من أداء أي استحقاقمن استحقاقات حل النزاع التاريخي على أساس مشروع كان يواجه رفضاً مبطناً من أعلى المرجعياتالسياسية والأمنية الإسرائيلية. ولعل إقحام موضوع الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية،كان من بين أكثر الشواهد دلالة على وجود نية إسرائيلية مضمرة لاختلاق أي ذريعة ممكنة،من شأنها كبح كل جهد تفاوضي يقود إلى حل النزاع على قاعدة دولتين لشعبين.

على أي حال انتهت عملية أنابوليس التي لم تتمكن من الوصولإلى الحل المنشود رغم بعض التقدم غير المكتمل، وذلك عشية شن إسرائيل عدوانها الوحشيضد قطاع غزة، وتبدل المسرح السياسي الإسرائيلي تبدلاً كبيراً غداة تلك الحرب التي كانتعلامة فارقة في مسار العملية السلمية المتعثرة أصلاً، حيث بدا في إثرها مشروع حل الدولتينيترنح على الطاولة التي ظلت مقاعدها فارغة، فيما بقيت الإدارة الأميركية الجديدة التيتبنت هذه الفكرة مجدداً، تعمل لإعادة تجديد آليات حل الدولتين، وذلك وفق ما بدت عليهالمؤشرات الأولية والخطابات المبكرة للرئيس الأميركي الجديد في البيت الأبيض، لا سيمافيما يتعلق بوقف الاستيطان كمقدمة أولية من أجل إعادة بعث العملية السلمية من سباتها.

وكما تشهد الوقائع التي لا تزال حية في الذاكرة، فقدظل حل الدولتين متداولاً في سوق الكلام الدبلوماسي وقاعات المواقف اللفظية المرسلةعلى عواهنها، طوال السنة الأولى من زمن حكومة بنيامين نتنياهو، قبل أن تعمل الجرافاتالإسرائيلية التي كانت تسابق الوقت لدفن هذا المشروع في تراب مشاريع الاستيطان الهائلةداخل مدينة القدس وفي محيطها الواسع، وتقضي عليه الحفريات المتواصلة تحت أساسات المسجدالأقصى، وفي قلب البلدة القديمة وما تسميه بالحوض المقدس، فضلاً عن عمليات التهويدوالأسرلة الجارية على قدم وساق، وغير ذلك من الانتهاكات والمظاهر والشواهد الدالة بصورةلا تخطئها العين على تحلل إسرائيل تماماً من مشروع حل الدولتين، دون أن تعلن ذلك بالفمالملآن.

غير أن المرارة التي أخذت تعقد حلوق الفلسطينيين إثرانكشاف مدى تآكل مشروع حل الدولتين، واتضاح ضآلة الخيارات المتاحة بعد التراجع الأميركيالمشين عن الوعود والتعهدات المعلنة، وزيادة الفتور الأوروبي، واشتداد حالة الانشغالالعربي عن القضية الفلسطينية، جراء تقدم الاهتمامات الداخلية على غيرها في غمرة الربيعالعربي، نقول إزاء ذلك كله بدأت بعض القوى والشخصيات الفلسطينية تتحدث عن هذه الحقيقةالمريرة «فشل مشروع حل الدولتين» بصورة أكثر جدية، بين أوساط رأي عام بدا أنه كان أعمقإدراكاً من نخبته السياسية لمآلات كل هذه التحولات الجارية داخل إسرائيل وفي المشهدين:الإقليمي والدولي.

فقد كان الشعب الفلسطيني يرى بأم عينه عمليات تهويدالقدس وتغيير معالمها التاريخية والثقافية والدينية، والحفريات التي تجري تحت المدينةالمقدسة والمسجد الأقصى المبارك إضافة إلى مشاريع الاستيطان اليهودي الجارية على قدموساق، جنباً إلى جنب مع خطة إسرائيلية معتمدة منذ أمد طويل لتهميش السلطة الفلسطينية،ومن ثم تقويضها تدريجياً، دون أن يلقى ذلك كله أي ردود أفعال جادة، الأمر الذي أوصلكثيرا من الأوساط السياسية والثقافية الفلسطينية إلى قناعة مبكرة مفادها أن إسرائيلشرعت فعلاً في قتل مشروع حل الدولتين، وأنها نفضت يديها المدججتين بالقوة من كل تعهدشكلي سابق، بقبول مثل هذا الحل الذي ظل مجرد حبر على ورق.

وأزعم أنني كنتُ واحداً من بين أوائل الفلسطينيين الذينتوصلوا إلى هذه النتيجة التي تبني على الشيء مقتضاه، تنتهي الالتباسات واختلاط عناصرالصورة، وتُرتب علينا جميعاً مسؤوليات جسيمة، في مقدمتها التعاطي مع هذا الاستنتاجبأعلى درجة من درجات المسؤولية الوطنية، بما في ذلك التفكير الجدي في طي صفحة حل الدولتينلفتح صفحة أخرى جديدة. وكان لافتاً بالنسبة لي أن وسائل الإعلام الإسرائيلية دون غيرها،كانت أول من نقل عني تلك التصريحات المقتضبة حول موت حل الدولتين بفعل السياسة الإسرائيليةالمنهجية المتبعة منذ أمد بعيد ضد مثل هذا الحل الذي بات بلا مقومات على أرض الواقع.

وبالطبع، لم يرحب الإسرائيليون بمثل هذا الاستنتاج الذيقرأه بعضهم على أنه إنذار ينطوي على تهديد بإعادة طرح حل الدولة الواحدة، إن لم أقلإن بعض الأصوات اليمينية المتطرفة رأت في ذلك ابتزازاً سياسياً مباشراً، يصادق علىصحة ما كانت تروج له أوساط إسرائيلية واسعة، ليس فقط بعدم وجود شريك فلسطيني وانعدامالرغبة في صنع السلام لدى الفلسطينيين، وإنما يشير إلى رفض الحل السلمي من أساسه، واستمرارالسعي الفلسطيني المبيت إلى تقويض الدولة العبرية من الداخل، وذلك من خلال إعادة طرحخيار الدولة الديمقراطية الواحدة لكل مواطنيها، وهو الخيار الذي كان رائجاً لعدة عقودماضية قبل أن يجبه حل الدولتين.

وبالعودة إلى الينابيع الأولى لهذه الخلاصة التي أملتهاعلى الأرض سلسلة لا نهاية لها من الحقائق السلبية، والاستعصاءات السياسية، والرهاناتالخائبة، والآمال الزائفة، والمخاطر الجادة جداً، وجدت كما الكثيرين منا، أن طريق المفاوضاتالطويل وصل إلى نهاية الشوط تماماً، وأن عملية السلام التي جرينا طويلاً في متاهاتهااستنفدت أغراضها وانتهت، ولم يبق منها سوى الاسم فقط، وأن موازين القوى المختلة بصورةفادحة لا تجيز لنا مواصلة التفكير بصورة نمطية إلى ما لا نهاية، وأن المشهد الإقليميبمتغيراته غير المواتية في المدى المنظور لا يبشر بحدوث تحولات وازنة لصالحنا، الأمرالذي يوجب علينا القيام بإعادة تقويم شاملة، وإجراء المراجعات النقدية المعمقة، بمافي ذلك نقد خيار حل الدولتين ذاته.

وبمنأى عن الارتجال والاستعجال في طرح الاستنتاجات المبكرة،وعقد الرهانات المعلقة على أغصان شجرة باسقة، ومع الاعتراف سلفاً بعدد من العوائق الشديدة،والمخاطر الحقيقية التي ينطوي عليها طرح مفهوم الدولة الواحدة، فإنني أعتقد أن مقاربةهذا الطرح على إشكالياته الكثيرة، يقدم لنا رافعة أخلاقية، ومنصة انطلاق كفاحية تمكننامن العمل على إعادة تدوير الزوايا الحادة، وتوسيع هوامش المناورة، ومواصلة الهجوم السياسيالشامل لانتزاع أبسط حقوقنا المصادرة في الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، واستردادفحوى شعارنا الثوري القديم، أي الدولة الواحدة، التي تقدم في جوهرها الديمقراطي كثيراًمن الإجابات الشافية على فيض من الأسئلة الحائرة، بما في ذلك سؤال المصير الفلسطينيوجواب الحل النهائي.

لقد كان حل الدولتين فرصة أخرى بين سلسلة طويلة من الفرصالضائعة في تاريخ الشرق الأوسط، تولت إسرائيل هذه المرة، وبمفردها، تبديد هذه السانحةالتي لا تتكرر من جديد. بل يمكن اعتبار هذا الحل الموءود على مرأى من قابلته القانونية،أنه كان مجرد تمرين فكري في رياضة العبث السياسي واللاجدوى، انخرطت فيه قوى وعواصموأطراف كانت تغلب حسن النية، وتغض البصر عن رؤية الحقائق الموضوعية، وتعوّل على عاملالزمن، وعلى قدرة الضغوط الدبلوماسية وحدها في تحقيق اختراق سياسي طال انتظاره، وتتذرعبأدنى إشارة تنم عن وجود رغبة إسرائيلية ما في الامتثال لقوة المنطق بديلاً عن منطقالقوة.

إذ بدل أن نقترب خطوة يعتد بها على طريق حل الدولتين،وجدنا أنفسنا خلال السنوات العشر الماضية ضحية سهلة المنال، ليس لاحتلال غاشم فقط،ولواقع إقليمي لا مبال، ولوضع دولي منافق، وإنما وجدنا أنفسنا أيضاً أمام نظام فصلعنصري يزداد فظاظة، ينتهك حقوق الإنسان الأساسية، ويخرق مبادئ القانون الدولي، جنباًإلى جنب مع تفاقم مختلف ممارسات القمع والقهر، وصور الاجتياحات والاعتداءات التي لمتنقطع، وجدار فصل عنصري ووقائع استيطان ومصادرات دون قيد، وعملية تهويد واستقواء بلاحدود، الأمر الذي بدّل سائر معطيات البيئة السياسية التي نشأت فيها فكرة حل الدولتينقبل عقد من الزمان.

وزاد من بؤس المشهد القائم بؤساً مضاعفاً، اشتداد مظاهرالانقسام الداخلي العميق في الساحة الفلسطينية، حيث فشلت كل المساعي المبذولة وكل الإعلاناتالمتلفزة، في تحقيق المصالحة الوطنية، التي تعتبر شرطاً أساسياً من شروط بناء حالةذاتية متماسكة، ومدخلاً موضوعياً لا غنى عنه لتجديد شرعية سائر المرجعيات القيادية،ولسحب ذريعة طالما تذرعت بها إسرائيل بوجود سلطتين فلسطينيتين متنافستين في الضفة الغربيةوقطاع غزة، تحولان دون إضفاء المشروعية اللازمة وتحقيق الأهلية الكاملة، لدى شريك سلامفلسطيني له كامل الصفة التمثيلية غير المنقوصة، ومفاوض يتمتع بالمصداقية غير المطعونفيها.

وهكذا نجد أنفسنا اليوم بعد مرور كل هذا الوقت ووقعنافي حبائل سيناريو عقيم، تطرح علينا مطالب تعجيزية، نواجه انسدادات مضاعفة، وتنخفض فيهالتوقعات إلى أدنى حدودها الدنيا إزاء إمكانية الحل العادل والشامل، وتتعقد فيه القضاياالجوهرية مثل قضية القدس واللاجئين أكثر مما كانت عليه تعقيداً في بداية المسيرة السلميةالطويلة، وتتحطم فيه كل إمكانيات فعلية لتحقيق مشروع حل الدولتين بعد كل هذه التغيراتغير المواتية في البيئتين الإقليمية والدولية، ويستشري فيه النهم الاستيطاني إلى درجةلم يكن عليها من قبل طوال سنوات الاحتلال المديدة، وذلك كله دون أن تلوح في الأفق أيبادرة محتملة للخروج من هذا الاستعصاء المميت، وكسر هذه الحلقة الجهنمية المفرغة.

إزاء تفاقم المصاعب الحقيقية، وضآلة الخيارات المتاحة،وتغير البيئة السياسية المحيطة، واشتداد المخاطر المحيقة بالمصير الفلسطيني، يبدو أنهلا مفر أمامنا من محاولة الخروج، مرة إثر مرة، من هذا النفق المظلم، والكف عن التعلقبالأوهام الساذجة، والافتراضات العتيقة، والرهانات المعلقة في سماء بعيدة، والمكابراتالتي لا طائل من ورائها، ومن ثم الشروع في إجراء حوار داخلي شامل يبدأ على شكل عصففكري في الدوائر الصغيرة، قبل أن يتم عرضه إلى نقاش وطني أشمل، نتوصل فيه بعد حين لايطول، إلى وجوب إحداث استدارة كاملة عن حل الدولتين بعد أن تعطلت آلياته وفقد مقوماته،والتحول إلى خيارات بديلة، وأساليب عمل جديدة، وخطط وبرامج كفاحية مختلفة.

وليس لدي شك في أن هذه المقاربة الصريحة لمآل حل الدولتين،تتطلب منا، بدل التطير سلفاً، إعمال الفكر بروية شديدة، وفتح النقاش حولها بمسؤوليةكبيرة، وتدعونا بإلحاح شديد إلى إجراء المحاكمات الرصينة، والمراجعات النقدية العميقة،لإنضاج بديل واقعي لخيار يواجه أزمته الجدية، وبالتالي فتح نافذة أخرى تتسلل عبرهاأشعة الشمس وخيوط الأمل، وذلك عوضاً عن أن نظل في حالة نتلاوم بعضنا بعضاً، ونتبادلتقاذف كرة المسؤولية، ونلعن الظلام بدل أن نضيء فيه شمعة.

ولعل من نافل القول التذكير بحقيقة أن حل الدولتين لمتقم له طوال الوقت السابق قائمة على الأرض، رغم كل ما تمتع به من سحر على مستوى الطرحالسياسي، وما فاض به من إلهام على مستوى التحرك الدبلوماسي، وذلك نظراً لافتقار حلالدولتين هذا إلى قوة دفع ذاتية، لديها ما يكفي من التصميم والمصداقية والمرجعية الموثوقة،ناهيك عن حاجته الموضوعية إلى روافع وآليات عمل وجدول زمني ملزم، فضلاً عن توفير الحوافزوالجوائز، ومتطلبات البناء التراكمي المتدرج، ومعايير التحقق بصورة تقبل القياس والتقويم،وفوق ذلك كله وجود النوايا الإيجابية التي لم تتوفر يوماً لدى القوة القائمة بالاحتلال.

بكلام آخر، أصبح حل الدولتين في المحصلة الأخيرة وبعدكل هذه السلسلة الرهيبة من الانتهاكات الإسرائيلية أقرب ما يكون إلى حرث في البحر،إن لم أقل ملهاة سياسية طويلة، أضاعت عشر سنوات حافلات بالمراوغات والتراجعات والاستعصاءات،اُقتطعت من أعمارنا، وهُدرت فيها طاقتنا المحدودة، وحصدنا في خواتيمها خيبة أمل مضنية،ليس أقلها تعثر الحل العادل والمقبول، واستشراء حالة الانقسام التي تبدو وكأنها داءعضال لا شفاء منه، وتفاقم التحديات المحيقة بنا، وانعدام روح المبادرة بعد استبعادبعض الخيارات بلا ثمن.

وإذا كان هناك من بقية رجاء بعد في إعادة بعث حل الدولتين،فذلك أمر لا يتوقف على حسن النية فقط، ولا يستعاد بذرف الدموع، ولا يتحقق بتجريب المجربمرة أخرى، وإنما يكمن في العمل المثابر على إعادة بناء الأرضية الصلبة من جديد، وتصويبالأوضاع الذاتية على كل صعيد، وتعزيز مقومات الصمود والثبات، والحفاظ على الثوابت الوطنية،وإعادة الروح إلى المؤسسات الفلسطينية، ومعاودة الاشتباك مع الاحتلال بنَفَس طويل،واستنهاض الطاقات الكامنة، ورفع سوية الأداء الوطني.

وفي المحصلة التي تتطلب مزيداً من الحوار المنظم، فإنحل الدولتين الذي أرى أنه فقد مقومات تحققه على الأرض الجاري نهبها أمام أبصار رعاةهذا الحل، وأنه خسر قوة انطلاقه، ومسوغات التعلق بحباله الواهية، وموجبات التداول بهبنمطية فكرية، وهو في واقع الأمر حل أخلى مكانه في مدار لا يقبل الفراغ، ليفتح من تلقاءنفسه باباً لحلول كفاحية إبداعية بديلة أو الاستمرار في عملية التجريب،يكون حل الدولةالواحدة، رغم كل ما يستبطنه من مسائل خلافية وإشكاليات لا حصر لها، واحدا من الحلولالتي يحسن بنا إثراؤه في إطار حوار داخلي رصين، وعرضه من ثمة تحت ضوء النهار على رأيعام فلسطيني مترع بالإحباط، قبل وضعه على المائدة كخيار، ورميه على إسرائيل كجمرة مننار، بعد أن أفشلت حل الدولتين عن سابق تعمد وإصرار.

يبقى ضرورة القول، ان ما ينبغي على الطرف الفلسطينيالقيام به في هذه الآونة، والشروع به دون تردد إضافي ولا انفعال، هو بيان ما تقوم بهإسرائيل من عمل منهجي منظم، لقتل حل الدولتين وتقويض كل مقومات إنشاء دولة فلسطينية،ومن ثم وضع اللجنة الرباعية، والولايات المتحدة بصورة خاصة، على هذه الحقيقة التي باتتترى رؤية العين المجردة، ونعني بذلك استحالة «حل الدولتين» الذي تمكنت إسرائيل القوةالقائمة بالاحتلال من قطع رأسه في القدس، قبل أن تشرع في تمزيق أوصاله في الضفة الغربية،وفي إبقاء الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

كما ينبغي القول أيضاً بصورة لا لبس فيها، ان مثل هذاالاستخلاص الذي ترسخ في الوعي العام منذ مدة، وبات حقيقة مرة من حقائق وضع مرير فيالأساس، أن علينا كفلسطينيين، ونحن المخاطبون كلياً بهذا المآل المؤلم، أن نأخذ مسؤوليتناالخاصة بنا على هذا الصعيد، ونعني بذلك السعي بكل جدية إلى تعزيز مقومات الصمود الذاتيفي كل المجالات، وأن نولي عناية فائقة بمسألة تثبيت وجود الإنسان الفلسطيني على أرضهبكل الأشكال الممكنة، وفوق ذلك كله أن نجري تقويماً عميقاً وشاملاً لسائر محطات المرحلةالطويلة، بكل ما تحقق فيها من إيجابيات وما اعتورها من سلبيات، ومن ثم اتخاذ القراراتالمهمة، على نحو تشاركي، وبصورة مؤسسية، وفي إطار أعلى درجات الحس بالمسؤولية التاريخية.