حالة الارتباك والقلق التييعيشها أهل قطاع غزة هذه الأيام، هي تعبير حقيقي عن مشكلة القطاع الكبرى، التي ازدادتتفاقما في السنوات الخمس الأخيرة بعد الانقسام، فقطاع غزة الآن يعيش تحت التهديد بماهو أقصى، ويعيش تحت سقف الاتهامات المبالغ فيها التي لا يستطيع أن ينفيها بوضعه الحالي،لأنه يعامل في الرأي العام الدولي المنافق على أنه يشكل تهديدا لإسرائيل، بينما هولا يشكل تهديدا إلا لنفسه، وكل يوم يستمر فيه على هذا الحال والمنوال يجعله يقترب أكثرمن لحظة الانفجار أو لحظة الانتحار.

قطاع غزة، بوضعه الاشكالي القائمالآن، يريده الجميع ولا يعترف به أحد ! يريده الذين يرغبون في تبرير عجزهم عن مساعدته،فهو الضحية والمتهم في آن واحد ! وهذا وضع مثالي بالنسبة لجميع أطراف اللعبة الواسعة،ويريده تجار التضامن العربي والإسلامي والدولي، فهو يمنحهم الصيت اللازم للدعاية السياسيةوالمكاسب المادية، ولا يأخذ منهم شيئا على الاطلاق حتى ولا الفتات !

وهو بوضعه الحالي الاشكاليمطلوب لإسرائيل كما تحب وتشتهي، لأنه يعطيها الفرصة لكيل الاتهامات بلا تكذيب، تارةبأنه يملك أسلحة تهدد الدولة النووية الأقوى في منطقة الشرق الأوسط وهي إسرائيل، وتارةبأنه أصبح بؤرة للارهاب، وتارة ثالثة بأنه حديقة خلفية لمحور الأشرار ! وكلما كانتإسرائيل بحاجة إلى بضعة صواريخ تتساقط بالقرب من مستوطناتها، لتشد عصب الائتلاف الداخليبعيدا عن المشاكل والتفسخات الكبرى، فإن الصواريخ موجودة، جاهزة تحت الطلب، لدرجة أنأخوتنا من الفلسطينيين، بدو النقب، انشغلوا بهذه الصواريخ في الأيام الأخيرة، وأصبحتقضيتهم الأولى انشغلوا بها عن المخططات الإسرائيلية التي تستهدف سرقة أراضيهم، لأنحياة الإنسان مقدمة على أي شيء آخر، وهكذا فإن المستوطنين اليهود ليسوا فقط الذين يهددوننااليوم، بل إخوتنا من فلسطينيي النقب الذين تتساقط صواريخنا بالقرب من بيوتهم، لأن صواريخناالتي بين أيدينا ليست مؤهلة لأكثر من ذلك، وإلا لما وصلت إلينا !

هذا الوضع غير المستقر وغيرالمؤكد وغير المضمون لقطاع غزة، ينتج نفسه بمفارقات عجيبة، فلدينا نسبة فلكية من البطالةوالفقر، ولدينا آلاف الأسر التي لا تستطيع أن تؤمن طعام يومها، ولدينا أسر تصبح حالتهامأساوية، إذا اوقفت الأونروا برامج الإغاثة الطارئة !!! ولدينا في نفس الوقت وفي نفسالمكان ستون مليونيرا جديدا من قطاع غزة – كما تهمس بذلك بعض الاحصائيات غير الرسمية-، من اين جاءوا ؟ من تجارة الأنفاق، وتهريب المخدرات، وارتفاع الأسعار، ومزايا الحصار! تصوروا، في هذه الأيام فإن غالون المازوت « السولار « يطلب فيه البائعون مئة شيقلثمنا له، فما بالكم بثمن غالون البنزين ؟

وهؤلاء المليونيرات الجدد،أثرياء الحرب، الذين ولدوا سفاحا من رحم الحصار، هؤلاء بدورهم يحولون الحياة في قطاعغزة إلى جحيم، ربما وهم لا يعلمون، حيث الملايين التي هبطت عليهم نتيجة أوضاع قطاعغزة الشاذة، يستثمرونها في شراء الأراضي وفي شراء البيوت والعقارات، فيرتفع ثمنها بشكلجنوني، فيزداد الفقراء فقرا، ويزداد العاطلون عن العمل بؤسا فوق بؤسهم، ويشعر الشبابمن خريجي الجامعات الذين لا يجدون ثمن ساندويتش فلافل بالمزيد من اليأس !

قطاع غزة المحاصر، الذي يريدهالجميع هكذا كل لأسباب تخصه، ولا يعترف به أحد، تتجاور فيه المفارقات الحادة المستحيلة،حيث الآلاف يتنقلون بواسطة عربات الكارو التي تجرها الحمير، وعربات التكتك العجيبةالتي تشبه العناكب، والسيارات التي شطب نوعها في العالم منذ ثلاثين وأربعين سنة، ولكنهاتسير في الشارع إلى جانب أحدث السيارات في العالم التي يصل ثمن بعضها إلى مئات الآلافمن الدولارات !!!

هذه الحالة المتفاقمة الكارثيةالانفجارية: استنتجها وتوقعها الإسرائيليون قبل عقود، منذ العام 1985، ولذلك فإنهمتركوا قطاع غزة في معادلة رهيبة جدا، تركوه خارج مسؤوليتهم بالمطلق وتحت سيطرتهم بالكامل! وبما أن مشكلة قطاع غزة تتفاقم بمعدلات سريعة جدا، فإننا نقترب حثيثا من الكارثة،نخطو نحوها بعيون جاحظة ولكننا عاجزون عن فعل أي شيء، أولا: بسبب هروب المسؤولين والفاعلينالأساسيين المتعمد من الاعتراف بوجود مشكلة متفاقمة أصلا، وثانيا: لأن هذه المشكلةالمأساوية مطلوبة للجميع، ولذلك فهم يغذونها باستمرار حتى لا تنتهي ولا تجد حلا، لأنهميريدون قطاع غزة في هذه الحالة المثالية من الارباك الداخلي الفلسطيني، وفي هذه الحالةالمثالية من الانتحار الذاتي، بحيث لا يضار أحد من الجيران، ولا يحرج أحد من الأشقاءأو الأصدقاء، لأن قطاع غزة – سامحه الله – هو الذي فعلها بنفسه، وهو وحده الذي يتحملالمسؤولية، وكل طرف يقرأ صورة قطاع غزة كما يشتهي، وكل طرف يفسر سورة قطاع غزة ويؤولهاكما يريد !!! هكذا بلا ثمن، بلا مسؤولية، بلا التزام، بلا أي شيء على الاطلاق.

حسب تجارب السنوات الخمس الماضية،فإنه إذا لم يقم الفلسطينيون أنفسهم بحل مشكلة قطاع غزة، فلن يحلها لهم أحد، بل علىالعكس من ذلك، الآخرون يرونها أكبر من الحل وأعقد من الحل، ولذلك فهم يتعاملون معهابصفتها أمراً واقعاً مستداماً، والمهم أن تظل المشكلة داخل الفناء نفسه، وأن لا ينزعجمنها أحد لا من الأشقاء ولا الأصدقاء.

والمثال الصارخ على ما أقول،هو ما نعانيه الآن في هذه الأثناء بخصوص التهدئة، والتهديدات القاسية بشأنها، ما هيالصيغة التي تحكمنا ؟ ما هي صيغة التهدئة ؟؟؟ ما هو هذا التفاهم الذي رست عليه الأموربعد الحملة الدموية الأخيرة التي تعرض لها القطاع ؟ هل الإسرائيليون التزموا بشيء ؟أم أنهم وعدوا بالتفكير في الأمر ؟ أم أنه مرفوض من قبلهم جملة وتفصيلا ؟

لا أحد يعرف، وكل يقرأ الرسائلعلى هواه، ليست هناك نسخة أصلية معتمدة للنص ! فليعتقد كل طرف بما يشاء، حركة الجهادتحتفل ببشائر النصر وحركة حماس تبلغ الجميع برسائل التهديد الإسرائيلية التي تصل إليهاعبر الأشقاء المصريين، وبقية الفصائل تقسم كعادتها بأغلظ الأيمان بأن أحدا لم يستشرهابشيء على الاطلاق، وأنها بريئة براءة الذئب من دماء ابن يعقوب !!! أما أهل قطاع غزة– الناس العاديون الرجال والنساء والأطفال – فيا حسرتي عليهم خائفون، قلقون، حائرون،ماذا يفعلون ؟ بينما اللعبة الجهنمية هي نفسها تستمر في الدوران.