على قدر ما تنشأ عداوات وتباغضات ودسائس، بين بعض القادةالإسرائيليين المحتلين وبعضهم الآخر؛ فإنها لا تؤثر على تماسكهم حيال «الخطر» الفلسطينيوالعربي والإسلامي، على الرغم من تواضعه، بل من انتفائه تماماً. فهو خطر موهوم يلفقهالمحتلون ويستخدمونه وسيلة للخداع. غير أن التباغض فيما بيننا، فلسطينياً، يزداد تفاقماًحيال المخاطر الحقيقية والخطيرة، علماً بأن أسباب التباغض القيادي الإسرائيلي تكونبالغة الفظاظة ومن نوع كسر العظم!

قبل نحو سنة، تابع الرأي العام الإسرائيلي، ما يُسمىبـ «قضية هارباز». وقصتها باختصار، أن ضابط احتياط يُدعى بوعاز هارباز، لفق تقريراًوثائقياً مزدحماً بالحيثيات الشائنة، هدفه تشويه سمعة الجنرال يوءاف غالانت، قائد«الجبهة الجنوبية» في جيشهم آنذاك. وبثت القناة العاشرة الإسرائيلية التقرير الملفق،فاشتعلت الحرب بين من يُفترض أنهم «دفشوا» ضابط الاحتياط للنيل من سمعة غالانت، ومنيدافعون عن غالانت باعتباره «بريئاً» مما نُسب اليه. وكانت غاية التلفيق، الحيلولةدون تعيين هذا الأخير، رئيساًَ للأركان!

ساسة إسرائيل، يلازمهم هاجس دائم، من أي رئيس للأركان،على اعتبار أن من يشغل هذا المنصب، يستحث في كل مرحلة إعجاب جمهور يتعطش لدمائنا، ويطربلما يقترفه جيش الاحتلال من جرائم ضدنا. بالتالي ما أن تنتهي مدة رئيس الأركان، حتىتنفتح له أبواب السياسة على مصاريعها، فينـزعج منه السياسيون الماكثون قبله، وبخاصةأولئك الذين لم يستكملون تحقيق أحلامهم، ويكون «الجمهور» قد نسي أدوارهم السابقة فيالجيش!

في هذا السياق، يجري توظيف السقطات الجنسية ومظاهر الفسادالمرصودة، للإطاحة بطامحين كُثر. ولا مزاح في هذا العراك ولا رأفة ولا اعتبار للرفقة.نتنياهو نفسه، دفع ببنت مغناجة مطعاجة، ذات مهارات إغرائية، لكي تستثير مدير ديوانهالسابق نتان إيشيل، وكان هذا الأخير يطمح الى مستقبل سياسي. ويبدو أن الرجل استثيرفعلاً، فهمَّ بها بعد أن همَّت به، فما كان من نتنياهو إلا التغاضي عن الهَمَم الثانيوالتركيز على الهَمَم الجوابي، ليهمس في أذن مدير ديوانه: إخلع سريعاً بتقديم استقالتك..وإلا!

عوزي أراد، رئيس «مجلس الأمن القومي» الإسرائيلي (وهنانحن نتحدث عن كبار، من ذوي المناصب الرفيعة) اتهم نتنياهو وزوجته التي اختارت البنتلتلك المهمة، بأنهما دفعا العاملين في ديوان رئاسة الحكومة، الى تقديم شبهات كاذبةأمام محققي مراقب الدولة، وكأن وقائع الهَمَمان، بين الفتاة والرجل، كانت عند بوابةالديوان وعلى مرأى من العابرين لكي يشهدوا على واقعة تحرش، أو كأن الوصول الى الجنسالعابر، في إسرائيل، عسير وشائك مثلما هو في قندهار الأفغانية، لكي ينزلق فيها، تنفيساًعن رغبات جنسية، رئيس الدولة والمسؤولون الكبار في مكاتبهم واستغلالاً لوظائفهم.

وفي الحقيقة، مثلما تلبي حكايات الجنس والمحاباة والفساد،متطلبات الدسيسة؛ فإنها توفر للجمهور الإسرائيلي مواد «شيّقة» ومطلوبة للتسلية والتداول.بل إن هذا الجمهور سيشعر بأن شيئاً ينقصه، لو لم تكن هناك، في أي يوم، كراهية وسجالاتوتلميحات بقصص عفنة، بين وزارة الدفاع ورئاسة الأركان العامة. وهناك مختصون في الشأنالإسرائيلي، يجزمون بأن أية دولة في العالم، لن تشهد في ثلاثة قرون، من التباغض بينالساسة بعضهم حيال بعض، والعسكريين كذلك، ما شهدته إسرائيل في غضون حياتها القصيرةبمعايير أعمار الدول. وربما من المفيد أن ننقل جواب وزير الشؤون الاستراتيجية موشييعلون، عندما سأله واحد قبل أسبوع، عن تعليله لهذه الظاهرة السخيفة. أجاب كمن يريدأن يقنع سائله بأن الظاهرة جديدة وتتعلق بمرحلة واحدة: أينما يوجد البشر، توجد السياسةوالغرائز. و»البطل» هو الذي يكبت رغباته. لكن من دواعي الأسف، أنه في فترة ولاية اشكنازيفي رئاسة الأركان، تفجرت قصص وتعكرت الأجواء بصورة سيئة. وهو يقصد الكراهية العلنيةوالدسائس التي حيكت في سياق التباغض بين اشكنازي وباراك!

في ذات السياق، قدم يعلون تكراراً للعبرة المعروفة،في شكل استفهامي: ما هو موقف الجنود والضباط والمسؤولين الصغار، عندما يرون الجنرالاتوالمسؤولين الكبار يكرهون بعضهم البعض ويمارسون النميمة والدسيسة، وتنسب اليهم قصصوضيعة؟! وقد تناسى موشي يعلون، أنه هو نفسه، خاض صراعاً مريراً عندما كان رئيس للأركان،مع شاؤول موفاز، وزير الدفاع آنذاك. بل هناك ما هو أكثر من هذا بالنسبة ليعلون. فعندماتوافق موفاز مع شارون، على عدم التمديد له في رئاسة الأركان، أطلق ما يسميه الإسرائيليون«خطاب الثعالب» حين قال: إنني أمشي داخل وزارة الدفاع في تل أبيب، بفردتي حذاء عسكريمرتفعتين، تحسباً من الثعابين!

كان في قوله ذاك، يغمز من قناة الضباط والمستشارين،العاملين مع موفاز!

** *

لكل حكاية من وقائع هؤلاء، ما بعدها في السياسة، إذتتواصل عمليات تصفية الحسابات، ويتخلل ذلك مواقف وحوادث: تعطيل كومبيوترات ومحو وثائق،والتنصت والتنصت المضاد، وثرثرات ممتدة، بلغت من حيث التسجيل الصوتي الكيدي، عند واحدمنهم للآخر، ألف وأربعمئة ساعة. ويعارض يعلون الآن، رغبة نتنياهو في حجز موقع لباراكفي حزب الليكود. وتسترسل الأحاديث، على مستوى الجميع، عن تعيينات لم تبلغ في مستوىخطئها، تعيينات لجنة السفارات عندنا. ولا يستثني النمامون الإسرائيليون قادتهم من إشاراتلمظاهر فساد، ولكل أقصوصة، تعليلها المصلحي، كأن يُقال في المثال الذي أوردناه في البداية،أن أشكنازي وبوعاز هارباز، شريكا «بزنس» لذا فقد دفع الأول شريكه الى تلفيق تقرير وثائقيلتشويه سمعة يوءاف غالانت، الذي سيأخذ موقعه!

على الرغم من ذلك، تتبدى بوضوح، قوة الدولة العبريةالتي يجتمع متباغضوها متحدين، أمام خطر عربي مفترض أو موهوم. أما نحن، بسلامتنا، فلايوحدنا الخطر الحقيقي الماثل للعيان. إننا المغرمون الحقيقيون بـ «خطاب الثعالب». بالتاليفإن الوحدة التي هم عليها، تستمد تميزها وأهميتها، قيمة، من تفرق شملنا وبؤس أحوالنا.ولا يمنحهم صفة القوة، إلا ضعفنا وإصرارنا على أن نهزم أنفسنا دونما نزال!