في الذكرى السابعة لرحيله , في ذكرى مولده , في ذكرىحضوره المتجدد فإن محمود درويش يعيش بيننا بقوة , بصفته مبدعاً كبيراً , بصفته شاعراًمن نمط متفرد , استطاع على نحو ما و بطريقة لا يمكن أن يشرحها احد , ان يحول فلسطينفي الذاكرة الجمعية الفلسطينية و العربية و في الذاكرة الإنسانية , من استذكار سياسيإلى اعتراف ملحمي , و من سجل واقعي إلى تاريخ تراجيدي , لا يخبو في بعض المناسبات وينهض في مناسبات أخرى , بل هو إرث إنساني يتم استكشاف نفائسه باستمرار دون أن ينضب, و يتم الانحياز له بغض النظر عن نوع الأدوات السياسية المستخدمة في كل مرحلة , بلفلسطين بعدالتها و وجعها و أسئلتها الكبرى , و خطايا الصانعين لمأساتها , تحولت إلىإرث إنساني شامل , و إن كل من ينفض يديه من هذا الإرث , من عبقرية هذا الجرح , و منإلحاح هذا السؤال الكبير يشعر بأنه عاقب نفسه أشد العقاب بأنه أصبح على الهامش , وينظر إليه بارتياب حتى على مستوى اكتساب صفاته كإنسان .

سؤالي في هذه الذكرى هو : كيف استطاع محمود درويش ,و هو في خضم الحدث اليومي , و في قلب الصخب , أن يعيش التفاصيل كلها بفيضانها الطاغيوان يتحرر منها في نفس الوقت و يحولها إلى نسيج غير مرئي في رؤيته الملحمية الكبرى؟؟؟

لا أدعي أنني ناقد أدبي , بل على العكس من ذلك , فأنامن الذين يؤمنون ببؤس النقد الأدبي , و أن الإبداع أسبق من القواعد التي ابتدعها لهالنقاد , و يعود ذلك إلى أن التجربة الإنسانية أسبق و أعمق من كل مؤرخيها !!!

و لكنني تعرفت على محمود درويش في اليوم الأول الذيخرج فيه من حيفا و وصل إلى القاهرة , و كان من أصعب القرارات التي اتخذها في حياتهو لم يبرأ قط من الأسئلة التي ظلت تلاحقه حول هذا القرار حتى لحظاته الأخيرة ؟؟؟ وكانت اخر مرة رأيته فيها في رام الله في مركز خليل السكاكيني الثقافي في بداية العام2004 , و كنت قد تعرفت عليه قبل أن أراه من خلال مبدع فلسطيني من نفس الطبقة الإبداعية, مسكون هو الآخر بالروح الملحمية لفلسطين , و هو غسان كنفاني , من خلال الجهد الذيكان يبذله في الستينيات و هو يبشر بالمبدعين الفلسطينيين الذين اتحدوا هناك مع الأرضو الذاكرة داخل الخط الأخضر !!! كما أن محمود درويش كان رئيسنا عندما كنت عضوا في الامانةالعامة لاتحاد الكتاب و الصحفيين الفلسطينيين , و قد احتفيت به كثيرا عندما زار صنعاءمرتين و كنت سفيرا لفلسطين هناك , فقد جاء مرة في العام 93 كنوع من التهرب حتى لا يشاركفي جلسة المجلس المركزي التي عقدت في تونس لإقرار اتفاق اوسلو , ليس لمعارضته للاتفاقالذي يتيح لنا موطئ قدم في وطن صغير متاح , و لكنه كان يخشى أن يتحول الوطن المتاحإلى ما يشبه الوطن الذي اضطر إلى مغادرته خارجا من حيفا إلى المنفى , و في تلك الزيارةكان يصاحبه الكاتب و المفكر اللبناني فواز طرابلسي أما المرة الثانية فكانت في العام2003 حيث انعقد مؤتمر الشعراء الألمان الفلسطينيين اليمنيين حيث شارك الشاعر الألمانيالحائز على جائزة نوبل غونتر جلاس كما شارك الشاعر السوري العربي الكبير أدونيس , وكان محمود درويش نجم المؤتمر الساطع بإقرار و فرح الجميع .

عبر هذه السنوات التي عايشت فيها محمود درويش في القاهرةو في بيروت التي كانت وقت ذاك عاصمة الثورة العالمية , و في تونس بعد ذلك حين أقلتناإليها سفائن البحر الكبيرة الحجم , و في عمان و صنعاء و رام الله أخيرا , بعد كل هذهالسنوات , فإنني لم ألمح محمود درويش و لو مرة واحدة , و لو لثانية واحدة في حالة منالكآبة , كنت أراه في بعض الأحيان مغموسا في حزنه الذي لا يضاهى , و لكن ليس في الكآبةو الانطفاء , كان دائما وسيما و أنيقا و في حالة انتباه قسوة , كان يذهب ليتلقى وحيالقصيدة و هو في قمة أناقته و في قمة الانتباه و اليقظة , و كان محمود درويش يضيق ذرعابكل المظاهر الانفعالية المسرحية , و خاصة حين تأخذ شكل الكآبة و الانطفاء , و كانشديد الانتباه إلى من حوله , و كان له صداقات حية و لامعة مع فئات متعددة من الناس, كان له صداقات مع فدائيين , عناصر في بعض القواعد المقاتلة يحبهم جدا لطزاجتهم ,و تلقائيتهم , يحب جنونهم كيف يضحكون و يعشقون و يحلمون و هم يعرفون أن أعمارهم قصيرةمثل زهور اللوز , و هم يشتبكون مع الخطر الشامل إلى حد الاندماج , و كان محمود درويشينتعش مثل شتلة نعناع مروية بالماء العذب , و خاصة حين يلقي أحد في وجهه بحقيقة صادمةببساطة و تلقائية , و كان يشعر بالقلق و الوجع من مظاهر الإعجاب المصطنع , و من بعضالأشخاص الذين كان يصفهم بكائنات النميمة , و كان يشعر بالضجر من النساء البشعات اللواتيلا يملكن أية موهبة سوى أنهن فاضلات !!! و كان يكره تلك المراسم التي يؤديها بعض الناسبطريقة خشبية , هرمة , و باردة , و في حالة انطفاء .

و حسب تجاربي البسيطة معه , فإن أكثر ما كان يشعره بالسخطعندما كان يرى مراكز و مؤسسات ثقافية يديرها أشخاص مليئون بالكآبة , ملامحهم مهدودة, ومثقلون بالهموم التي لا معنى لها , مثل أصحاب الدكاكين الصغيرة في القرى النائية, يهمس بدهشة حين يرى أحد هؤلاء الكئيبين و عيناه تلمعان من وراء نظاراته الكبيرة: ماذا يفعل هذا الرجل هنا ؟؟؟ و كنت انتبه فعلا فأرى ذلك القائم على أمور المؤسسةالثقافية شخصا متآكلا , مثل باب خشبي قديم لا يفتح و يغلق بسهولة , مقص من الناس ,ألقابه التي يطلقها على نفسه تحيط به مثل جدران القبر الضيق , يا إلهي , الإبداع حلمو اشتباك و فرح , فكيف لهؤلاء الكئيبين المعترفين في أول سطر بالهزيمة و العزلة أنيكونوا رعاة الإبداع؟؟؟

انتصر محمود درويش طيلة حياته على هذه النمطيات الميتة, لم يقبل طيلة حياته أن يكون موظفا برتبة قائد , و لا ان يكون مداحا بصفة شاعر , ولا أن يكون كاتب تقارير و نميمة بمرتبة قطب ثقافي كبير !!!

انتصر محمود درويش طيلة حياته رغم ما فيها من وجع –في أن يظل حرا كما يريد , يعشق فلسطين بطريقته , يهديها اللآلئ التي تليق بها التيتنتمي إلى عالم الملحمة المستمرة , و لا تنتمي للحظة التي تخنق الأنفاس .

الاحتفال الذي قيم في ذكراه في رام الله أعظم ما فيه, هو روح الاستمرار , و التجدد , من خلال المنشآت التي أقيمت , و الجائزة التي تتوهجلأنها تحمل اسمه , و حضور تلك الجميلة و الفنانة المسرحية المبدعة , التونسية جليلةبكار !!! و كنت أتمنى أن لا تختنق ذاكرة تلك الكلمات التي تشبه نشارة الخشب التي ألقاهابعض رموز الكآبة !!! لماذا لم يكن هناك أطفال كثيرون , لماذا لم يكن هناك عدد كبيرمن الشباب الوسيم المجنون , و الفتيات الجميلات ينشدن نشيد الفرح؟؟؟