ربما أُخرجت في مثل هذا اليوم قبل 24 عاما بطاقة خليل الوزير، أبو جهاد، نائب قائد قوات الثورة الفلسطينية، ووافق رئيس الوزراء الإسرائيلي، وبدأ الموساد تنفيذ عمليّة الاغتيال. أو ربما كان هذا اليوم مجرد حافز لتكرار محاولات اغتيال سابقة، ولتسريع الخطط المعدّة سلفاً. في 7 آذار 1988 نفذّت مجموعة فدائيّة عملية يصعب حتى على معدي الأفلام تصوّرها؛ عملية "ديمونا" التي استهدَفَ فيها ثلاثة شبّان يافعين، تتراوح أعمارهم بين 21 و 22 عاما، من عائلات لجأت إلى قطاع غزة، المفاعل النووي الإسرائيلي، واختطفوا حافلة تنقل العاملين في المفاعل لمقايضتهم بأسرى فلسطينيين، وأخذوا يتوغلون داخل أسوار المفاعل، مواجهين الجيش الإسرائيلي إلى أن استشهدوا.

كان ملف "ديمونا" على مكتب أبو جهاد ينتقل من بلد إلى آخر، ويُغذّى بالتفاصيل لسنوات. ولم يُجنّد الشباب قبل أيّام من العملية، بل تمرّسوا في العمل التنظيمي والنضالي، والتقى واحد منهم على الأقل خليل الوزير شخصيّا.

كانت عملية غير مسبوقة ولا متبوعة، تُمثّل روح الثورة الفلسطينية حينها، كان بالإمكان اختيار هدف أسهل، كان يمكن اختطاف أي حافلة إسرائيلية. لكن للعملية رمزيةً ومعان أقضّت مضاجع القادة الإسرائيليين؛ أولها، الانتقال من مرحلة إعداد المجموعات المقاتلة لتدخل فلسطين برّا، أو بحراً، أو جوّاً إلى خلايا تعمل من الداخل. لم يكن الوزير ينقل الثورة حينها إلى الداخل فحسب، بل كان يعد وينتقي قيادات ميدانية وسياسية وحتى فكريّة، لتتولى الثورة وقيادتها هناك.

المعنى الثاني، كان درساً في اختيار الأهداف، وفي فلسفة للنضال. كانت الانتفاضة سلميّة وبالحجارة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان تسليحها خطاً أحمر، أمّا الكفاح المسلّح فيستمر ويمضي، ولكن وفق أهداف معدة بعناية، وبالابتعاد عن المدنيين. فمن الذي سيجرؤ عالميا على إدانة مهاجمة ترسانة نووية. ثمّ أي ضربة معنوية أقسى للإسرائيليين من اقتحام قدس أقداسهم الأمني، بعملية تقوم على المواجهة وجهاً لوجه والقتال؟

كانت إسرائيل قد اغتالت قبل العملية بـأقل من ثلاثة أسابيع، ثلاثة قادة ميدانيين في قبرص، هم مروان كيالي، ومحمد بحيص (أبو حسن(، ومحمد باسم سلطان التميمي (حمدي). كان ثلاثتهم هدفاً حيويّا للغاية، يمثلون تيارا عُرف باسم الكتيبة الطلابية، أو (الجرمق)، وكانوا من مؤسسي إطار "سرايا الجهاد الإسلامي"، يطرحون فكراً وممارسات ثورية جديدة. كانوا مرتبطين بالوزير، وفي تحقيق نشرته "واشنطن بوست" وقتها جاء أنّه "وبحسب مصدر في منظمة التحرير كان كيالي جزءا من عمل معقد لتزويد الفلسطينيين في لبنان بكل شيء من الخبز حتى الرصاص". على أنّ تحليلات الصحافة العالمية حينها ترى أنّه عدا عن دور أبو حسن وحمدي في قيادة الانتفاضة، فإنّ الأخير هو الهدف الأول للعملية، بسبب دوره الأساسي في هجوم 15 تشرين أول 1986، في حفل إلقاء القسم العسكري للمجندين الخريجين قرب حائط البراق في القدس، والذي قتل إسرائيليا وجرح سبعين، منهم 42 مجندا، وهجمات أخرى حملت بصماته وأبو حسن، من أشهرها الدبويا 1980 التي قتلت 13 مستوطناً في الخليل.

برسم خط بين النقاط؛ الدبويا وديمونا والبراق وانتفاضة الحجارة، وبين الوزير وحمدي وأبو حسن وشباب غزة، يتضح المشهد. ما حدث حينها كان ثورة داخل الثورة؛ حيث تتشكل منظومات عمل جديدة، وفق قواعد وأفكار جديدة؛ المقاومة الشعبية السلمية والمدنية وقواعدها، دون تخلٍ عن الكفاح المسلّح، ولكن بتحديد أهداف نوعيّة خاصة، والانتقال إلى داخل فلسطين وتقليل أهمية ساحات الشتات في المواجهة المباشرة.

بعد ساعات من استشهاد الثلاثة، حدث تفجير سفينة العودة في قبرص أيضاً، والتي كان يعدها الوزير، ربما بمساعدتهم، لحمل آلاف اللاجئين يعودون إلى فلسطين، وربما حيفا، ضمن حضور إعلامي ضخم، في ضلع آخر للمقاومة ومعانيها وإبداعاتها.  

لم يتشبثوا بنهج مقاومة واحد، مارسوها بالتوازي أو بالتناوب، أوقفوا ما يَجدُر وقفه إلى حين، وفعّلوا غير المُفعّل.  

دروس تلك المرحلة كثيرة، بدءا من تنوع أنواع المقاومة وتوازيها، وصولا لخطأ قلة الاحتياطيات الأمنية الذي سمح بالاغتيالات والاختراقات، والدرس الأهم هو "التفكير خارج الصندوق" بأساليب جديدة دائماً، وشجاعة المقاوم الفلسطيني.