لمتكن التوقعات لنتائج الزّيارة التي قام بها وفد فلسطينيّ إلى برلين وبروكسل عالية،لأن أوروبا مشغولة بأزمتها الاقتصاديّة، وبما يجري في المنطقة العربيّة من ثوراتوتغيرات، وبالملف الإيراني، وبعد ذلك تأتي القضيّة الفلسطينيّة. لاحظنا المواقفالأوروبيّة المتباينة من الطلب الفلسطينيّ للحصول على العضويّة الكاملة في الأممالمتحدة ومن المصالحة.

بالرغممن كل ما سبق، كانت الزيارة التي استغرقت أسبوعاً كاملاً مفيدة ومثيرة للانطباعلجهة الالتقاء بعدد وافر من المسؤولين والنواب وقادة الأحزاب والمستشارينوالمساعدين في برلين وبروكسل.

لقدوجد الوفد اهتماماً لافتاً يعكس كما قال لنا بعض المطلعين والفلسطينيين اهتماماًخاصاً بوفد فلسطينيّ لم يعد متوفراً مثله في هذه الآونة، وذلك يرجع إلى أن الوفدغير رسمي يتكون من شخصيات وطنيّة غير منتمية للفصائل، وأن زيارته تتم بعد"إعلان الدوحة" الذي رفع سقف التوقعات عند توقيعه في 6 شباط الماضي، إلىصدمة تعليق تشكيل الحكومة بعد اجتماعات القاهرة في 23 و24 من الشهر نفسه، وفي ظلالخلافات داخل "حماس" والبحث عن علاقتها بالثورات العربيّة، خصوصاً فيمايجري في سورية.

أبرزما يلاحظ في اللقاء مع المسؤولين والخبراء والنواب والمستشارين الألمان،والأوروبيين عموماً، أنهم، على الأقل، لا يفهمون السياسة الفلسطينيّة الممارسةالآن، ولا يستطيعون توقعها أو البناء عليها أو التعامل معها.

فإذاأخذنا مسألة المصالحة الوطنيّة، فهم لا يعرفون بالضبط هل تحققت أم لا، وما الذييمنع تحقيقها، خصوصاً بعد المتغيرات العربيّة والإقليميّة والدوليّة.

ويظهرارتباك السياسة الفلسطينية بصورة أكبر وضوحاً على مسألة تشكيل الحكومة، وهي مسألةبالغة الأهميّة، لأن الحكومة هي التي تتعامل معها الحكومات. فالحكومة الفلسطينيّةمنذ أكثر من ثلاثة سنوات بانتظار تعديل أو تغيير كامل لأسباب تتعلق باستقالة بعضأعضائها لأسباب خاصة، أو لتقديم لوائح اتهام ضد بعضهم، أو تمس الخلاف بين أوساط من"فتح" مع حكومة سلام فياض، أو لأسباب تتعلق باتفاقات المصالحة التي نصتعلى تشكيل حكومة من الكفاءات الوطنيّة المستقلة، حتى اتفاق القاهرة في أيارالماضي، إلى أن انتهى الأمر بالاتفاق على ترؤس الرئيس محمود عباس لحكومة الوفاقالوطني.

مثلاًمن اللافت كما يقول أحد الدبلوماسيين إنّ "إعلان الدوحة" قد وُقِّع قبلأسابيع من الاجتماع الذي يعقد كل سنتين للمانحين، ما سيؤثر سلباً حتماً علىالتزاماتهم بدعم السلطة، لأنهم لا يعرفون من سيدعمون، هل حكومة سلام فياض، أمحكومة برئاسة محمود عباس، أم حكومة برئاسة شخصيّة وطنيّة مستقلة تتوافق عليها"فتح" و"حماس".

ومايزيد الطين بلة أن الارتباك لا ينحصر في ملف المصالحة، وإنما في التردد الفلسطينيّما بين الاستمرار في خيار المفاوضات الذي يعترفون بفشله أو اتباع خيارات جديدة.

فالقيادةالفلسطينيّة تهدد منذ سنوات بأنها ستأخذ بدائل جديدة تتضمن عناوين عديدة، منها:استقالة الرئيس، وحل السلطة وتسليم مفاتيحها لحكومة الاحتلال، ووقف حالة السلطةالتي ليست سلطة، أو طلب الوصاية أو الحماية الدوليّة، وسحب الاعتراف بإسرائيل،ووقف التنسيق الأمني واتفاقية باريس الاقتصاديّة، والتوجه إلى الأمم المتحدةللحصول على العضوية الكاملة للدولة الفلسطينيّة، والمقاومة الشعبيّة، والتهديدباتخاذ قرارات إستراتيجيّة ستغير الشرق الأوسط وتحديد تواريخ لذلك، مثل أيلول2011، ونهاية العام الماضي، و26 كانون الثاني الماضي، وإرسال "أمالرسائل" إلى نتنياهو وأطراف اللجنة الرباعية في آذار الجاري.

بالرغممن كل ذلك، نجد أن القيادة الفلسطينية لم تحسم أمرها بأي اتجاه ستسير، وأقصى ماسارت فيه هو تقديم طلب إلى مجلس الأمن بخصوص الاستيطان والوقوف على أبوابه دونالدفع باتجاه التصويت عليه مهما كانت النتيجة، والاكتفاء بالحصول على العضوية في"اليونيسكو" دون تقديم طلبات جديدة إلى الجمعيّة العامة والوكالاتالتابعة لها، ودون تفعيل قرارات دوليّة سابقة يمكن أن يكون للإصرار على تطبيقهانتائج ملموسة، خصوصاً الفتوى القانونيّة لمحكمة لاهاي وتقرير غولدستون.

وإذاكانت القيادة والفصائل يفكرون جديّاً في اعتماد بدائل وخيارات جديدة، لماذايغرَقون ويُغرِقون الشعب معهم في تفاصيل وإجراءات لا حصر لها بعيداً عن إعطاءالأولوية لبلورة هذه البدائل التي من المفترض أن تحكم السياسة وكل التفاصيل.

هناكأوساط أوروبيّة صديقة لفلسطين، لا تفهم لماذا لم يتقدم طلب إلى الجمعيّة العامةللحصول على العضويّة المراقبة، وهذا أمر مضمون، ولا يمنع متابعة المساعي للحصولعلى العضويّة الكاملة في مجلس الأمن.

أوروباليست بريئة، فهي قدمت عرضاً للرئيس عباس في شهر أيلول الماضي لثنيه عن عدم تقديمطلب عضويّة كاملة لمجلس الأمن مقابل دعم أوروبي للحصول على العضويّة المراقبة،شريطة أن يلتزم بالعودة إلى المفاوضات المباشرة، وعدم تقديم طلب لمجلس الأمن أوللوكالات التابعة للأمم المتحدة، خصوصاً لمحكمة العدل العليا ومحكمة الجناياتالدوليّة.

هناكأحاديث الآن حول تطور في الموقف الأوروبي يظهر بالاستعداد للتنسيق مع الفلسطينيينللحصول على العضويّة المراقبة دون شروط مسبقة، لا نستطيع أن نصدقها ما لم يتماختبارها على أرض الواقع.

طبعًا،الأوروبيون يقولون إنهم أعلنوا أنهم لن يوقفوا المساعدات للفلسطينيين إذا تم تطبيقاتفاق القاهرة أو "إعلان الدوحة"، وأنه سبق وأن زادوا مساعداتهم المقدمةللفلسطينيين حتى في فترة حكومة "حماس"، ولكن تغيرت الكيفيّة التي يتمفيها تحويل المساعدات.

أوروباليست بريئة أيضاً في أنها شاركت في وضع شروط اللجنة الرباعية الدولية الظالمة كشرطللاعتراف بأي حكومة فلسطينية، وهي شروط لعزل "حماس"، وللتحايل علىالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وتقزيمها، وبالرغم من أنها لا توضع الآنكشرط لكنها لم تراجع، ولا تزال دول أوروبية هامة تعتمدها.

علىأوروبا ألا تنسى أن الفلسطينيين تحت الضغوط الدولية والمقاطعة والتهديد بها اضطرواإلى الأخذ بشروط اللجنة الرباعية من خلال الموافقة أولاً على تشكيل حكومة كفاءاتوطنية مستقلة، في حين أنهم بأمس الحاجة إلى حكومة وحدة وطنية تشارك فيها الفصائلوالمستقلون، وثانياً بالاتفاق على أن يترأس الرئيس محمود عباس حكومة الوفاقالقادمة، حتى لا تتعرض للحصار والمقاطعة مع أن هذا يتعارض مع القانون الأساسيللسلطة، ومع الديمقراطية التي ترفض احتكار شخص واحد لكل هذه المناصب، ومع النظامالسياسيّ الفلسطينيّ المختلط الرئاسيّ– البرلمانيّ.

علىأوروبا، إذا كانت وفيّة للمبادئ والقيم التي تنادي بها، أن ترفع الشروط التي تضعهاعلى الفلسطينيين، أو على الأقل تضع شروطاً مماثلة على إسرائيل.

منينتظر موقفاً أوروبياً خارجياً موحداً، خصوصاً إزاء القضيّة الفلسطينيّة، سينتظرطويلاً، فهناك مواقف لبعض الدول الأوروبيّة، مثل ألمانيا وهولندا والدولالأوروبيّة الشرقيّة، سلبيّة جداً لا تساعد على اتخاذ موقف أوروبي موحد فاعل، ولكنهذا لا يقلل من أهميّة أوروبا، وخصوصاً أن الموقف الأوروبي في السابق كان أفضل مماهو عليه الآن، ويمكن أن يعود كما كان وأفضل.

كماأن الرأي العام الأوروبي، حتى في ألمانيا تغير بشكل ملموس، وهذا يمكن البناء عليهفي حملات التضامن والمقاطعة، وصولاً إلى مرحلة يستطيع فيها الرأي العام الأوروبيأن يعكس نفسه على سياسات وقرارات الحكومات الأوروبيّة والاتحاد الأوروبيّ.

أوروبايمكن أن يتطور موقفها لأنها قريبة من المنطقة، وتتأثر سلباً وإيجاباً فيما يجريفيها، وبعدها النسبيّ عن السياسة الإسرائيلية وقربها الجغرافي وتاريخها الاستعماريللمنطقة؛ يجعلها أكثر معرفة بما يجري فيها من الولايات المتحدة الأميركيّة.

ولكنالدرس القديم المتجدد والذي يخرج منه الزائر لأوروبا، أن أوروبا والعالم اليوم، فيعصر العولمة وانهيار نظام القطبين والشيوعيّة، لا يفهم سوى لغة واحدة أو لغتين،وهما القوة أوالمصلحة، ومن لا يدرك هذه الحقيقة ولا يحسن استخدام هاتين اللغتين أوإحداهما لا يستطيع إحداث التغيير.

إنخطاب الحقوق والعدالة والإنسانيّة والحريّة والديمقراطيّة مهم جداً، ولكنه يؤثرعلى الشعوب والرأي العام، أما الحكومات فلا تفهم سوى لغة القوة أو المصلحة، وعليناإتقان استخدامهما أو أحدهما حتى يأخذنا العالم على محمل الجد.

ولنيتغير الموقف الأوروبي ولا الدولي ولا حتى العربيّ إذا لم يغير الفلسطينيون ما فيأنفسهم حتى يكونوا موحدين وفاعلين في إطار إستراتيجية جديدة قادرة على تحقيق ماعجزت عنه الإستراتيجيات السابقة.

إنالدبلوماسيّ الفلسطينيّ في وضع لا يُحسد عليه، لأن الانقسام السياسيّ والجغرافيّيضعفه كثيراً، وتيه الخيارات البديلة يربكه، وتبدل السياسات يكاد أن يشله، بالرغممن أن المتغيرات العربية والدولية تفتح آفاقاً إستراتيجية رحبة بصورة غير مسبوقة.

لقدكان الوفد الذي ضم شخصيات مستقلة ولديه ملاحظات جوهرية على السياسة الفلسطينيةومواقف الفصائل المختلفة مدافعاً عن فلسطين وقيادتها وعن "فتح"و"حماس"، لأنه يدرك أن الفلسطينيين مهما اختلفوا في مركب واحد إذا غرقغرقوا جميعاً وإذا نجا نجوا.