بقلم: عوض عبد الفتاح

مع اندلاع الثورات العربية؛ وما رافقها من هزات اجتماعية وسياسية عنيفة عصفت بالمنطقة؛ والشعوب العربية تخوض معركة نضال حقيقية للقطع مع قديم الاستبداد، وكلهم أمل بعصر جديد من الحرية والديمقراطية، ووجدانهم يرنو نحو استعادة الحقوق الوطنية وفي مقدمها فلسطين. إلا أن ما نشهده في الآونة الأخيرة من تغير في مسار الربيع العربي وانتكاساته، يظهر بشكل جلي أن قوى الاستبداد والرجعية عموما، والتي تتحمل المسؤولية المباشرة عن اتساع ظاهرة القوى التكفيرية، تقود ثورة مضادة بكل ما تعنيه الكلمة من أجل إعادة عجلة الزمن إلى الوراء. فبعد أن كانت هذه القوى تتخبط، بل وتحاول إخفاء نفسها وبرامجها، أصبحت اليوم تتصدر ثورة مضادة هدفها الإطاحة بمكتسبات الربيع العربي، وهي تفعل ذلك بغضب مفهوم فهي تدافع عن نفسها في معركة وجودية لا تنتقي فيها الوسائل بمعايير الأخلاق.

ولا شك أن محاولة تشويه القيادات الفكرية والثقافية المبدئية وذات المصداقية التي انحازت إلى حق الشعوب بالمنطقة العربية في الحرية والكرامة والمواطنة والوحدة هو في صلب هذه الثورة المضادة. والهدف تعميم فكرة مؤداها؛ أنه إذا ما كانت أبواق الثورة المضادة فاقدة للمصداقية وأجراء عند أنظمة ورجعيين، فلا بد إذن أن يكون كل مثقف مبدئي وأخلاقي على شاكلتهم.

وتحاول الأنظمة الاستبدادية والفاسدة التي تحرك الحملة ضد كل مقولات التغيير أن تمس برموز قومية وفكرية وعربية، لا لشيء، سوى لأنها مؤثرة، ولأنها فضحت هذه الأنظمة وانحازت إلى الشعوب. ولهذا فهي تطلق عليهم مرتزقتها لاختلاق افتراءات إذ لا يمكن تأسيس الادعاءات المغرضة إلا على الكذب. وعلى رأس هذه الهجمات، تلك الهجمة المسْلطة على المناضل والمفكر العربي الفلسطيني الدكتور عزمي بشارة.

طيلة ثلاثة أعوام، لا تزال تحاك الأكاذيب والافتراءات على هذا المناضل والمثقف، ظانين بإمكانهم دفعه  إلى الخوض في ترهاتهم أو ثنيه عن انحيازه الأخلاقي والفكري لحق الشعوب العربية في الحرية والانعتاق من الاستبداد، أو على الأقل أن يكون على الحياد، والحياد يعني لهؤلاء خيانة للشعوب والمواطنين وقضاياهم. وتعددت أشكال الافتراءات وتنوعت، لكنها توحدت في اختلاق الأكاذيب عن مناضل ومفكر كبير بقامة عزمي بشارة، وأخذت تتحول شيئا فشيئا إلى شكل حملات منظمة عدا الإعلام الإسرائيلي الذي لا يتوقف عن التحريض عليه. وكان آخرها الحملة التي ظهرت في إيلاف طيلة الشهور الثلاثة الماضية، ثم مقالين ممجوجين على صفحات مجلة "المجلة" في 14 و18 تشرين الثاني/ 2013، والتي استوجب الرد على افتراءاتهم وعدم السكوت عنها، وإعادة الاعتبار إلى حقائق حاولوا تشويهها بأساليب رخيصة من اللمز والغمز على عزمي بشارة، ووصمه بأوصاف تنم عن جهلهم وحقدهم وعدم معرفتهم بالتاريخ، واستمرائهم للتبعية التي يريدون إلصاقها بكل مناضل وشريف.

سيرة نضالية حافلة

في البدء لا بد من القول، إن من لديه أدنى معرفة بعزمي بشارة يعي تماما، بأنه لن يُشفي غليلهم بتغيير مواقفه المبدئية والأخلاقية، بل إنه يترفع عن الرد على افتراءاتهم لسخافتها، ناهيك عن سخافة مروجيها. وإنْ كان عزمي بشارة، ظل مترفعا طوال الوقت عن أن يخوض مع أنصاف كتبة وأشباه مثقفين وإعلاميين مستأجرين في المعارك التي يفتعلونها ويتخيلونها (وهؤلاء أصبحوا يعرفون أن عزمي بشارة لا يرد على ما يعتبره لا يستحق الرد، ويستغلون ذلك)، ولكن كونه منكبا في المقابل على العمل الفكري، ويكرس جل وقته للكتابة الأكاديمية وعلى بناء المؤسسات مثل المركز العربي للأبحاث وجامعة للدراسات العليا والمعجم التاريخي للغة العربية وغيرها من مشاريع الأمة فعلا، لا يعني على الإطلاق أن نقبل نحن بأن يُمسّ واحد من أهم رموزنا وقادة نضالنا العربي الفلسطيني. وهنا أكرر إنني لا أقصد إنكار الحق في مناقشة عزمي بشارة والاختلاف معه في قضايا فكرية وسياسية بطريقة حضارية وموضوعية. إنما ما يجري في إطار صراعات الأنظمة والمحاور على وجودها فلا يمت بصلة للنقاش، ولا للأخلاق والنزاهة.

فبعد أن أصبحنا نحن عرب فلسطين في لحظة تاريخية، محاصرين بشكل دائم ومستمر من قبل الصهيونية، التي مارست أبشع الأساليب لطمس هويتنا، ومن قبل قيادات عربية وفلسطينية كانت تُمني النفس بأن نندثر أو أن نصبح بدون هوية أو محتوى ثقافي، وذلك في سبيل تبريرها لعقد اتفاقات سلام مع إسرائيل تصفي فيه حقوق الشعب الفلسطيني، وفي الوقت الذي أراد فيه العرب دفعنا إلى الأسرلة لكي يحصروا القضية بالضفة الغربية وقطاع غزة، أي في لحظة كان شعبنا الفلسطيني مهددا بنكبة جديدة، برز عزمي بشارة ورفاقه بمشروعهم السياسي والفكري لتأسيس عمل منظم يرتكز على تمثيل العرب في فلسطين تمثيلا حقيقيا يدافع عن حقوقهم ويناضل سياسيا وثقافيا وفكريا للحفاظ على الهوية العربية والوطنية الراسخة لدى الفلسطينيين، كما ويرفض عزل قضية فلسطين عن بعدها العربي.

ومن هنا؛ جاء تأسيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي، ليضع عرب فلسطين الداخل على الخارطة العربية، ويؤسس لوعي بين أبناء فلسطين الداخل عن حقهم في الوجود والنضال من أجل حقوقهم ضد التمييز، ودورهم النضالي في الدفاع عن الحقوق الأصيلة للشعب العربي الفلسطيني بأجمعه.

إن بشارة ورفاقه من التجمع والوطنيين عندما رفعوا سقف النقد لإسرائيل، ثار جنون إسرائيل وشنت الحرب تلو الحرب على بشارة والتجمع لإنهاء هذه الظاهرة، وحاربوه بالقضاء تارة، وبالأمن والتلفيق الإعلامي تارة أخرى، ووصفوه بالراديكالية والتطرف وعدو السلام، في الوقت الذي تزاحمت فيه الأقدام أمام تل أبيب لنيل رضى إسرائيل وأميركا. إن حرب إسرائيل عليه آنذاك، شبيهة بهجمة وسائل إعلام معروف من يمولها اليوم، والهدف واحد بين الاثنين. وشارك في التحريض علينا في حينه الإعلام العربي الذي وقف مع إسرائيل عمليا في حربها على لبنان والمقاومة عام 2006.

ومن المعروف أن الدكتور عزمي بشارة لم يؤسس حزبا سياسيا فقط، فمن خلال فهمه للنضال الفلسطيني في الداخل، وما يتضمنه من ضرورة بناء مجتمع حيوي وناجز وغير هامشي، خاض المواجهات تلو المواجهات ضد خطط تحويل الفلسطينيين إلى سكان (جيتو) هامشي وتابع. وكان نضاله السياسي مرتبطا بهذا الفهم، ومن الحق القول إن بشارة هو من أولئك القلة، الذين تمكنوا عبر مراحل حياتهم من الاستمرار في المبادرة والعمل الدؤوب من أجل فلسطين بإنشاء المؤسسات والهيئات الثقافية والبحثية التي تلعب دورًا هامًا في حياة المجتمع والشعب الفلسطيني حتى اليوم.

إن بناء المؤسسات الراسخة والعاملة، كانت بالنسبة له، الظهير للنضال السياسي للشعب الفلسطيني في الداخل. ولم يجابه عزمي بشارة الأسرلة بالكلمة فقط، لقد شارك هذا المناضل شعبه في ميادين الاحتجاجات بالقدس وحيفا والناصرة ضد العنصرية الصهيونية. إن بشارة من قادة الحركة الوطنية بامتياز، ومن حق كل شخص وطني أن يتساءل أين كان مروجو الافتراءات ووسائل إعلامهم، عندما كان بشارة يتصدى مع شخصيات أخرى من عرب الداخل ومع أبناء الشعب الفلسطيني لزيارة شارون إلى الحرم القدسي في العام 2000 التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وهذا ليس غريبا عن رجل كان ولا يزال جزءا من الحركة الوطنية الفلسطينية، وعاشها بوجدانه منذ نعومة أظفاره، ومنذ أن وعى التمييز الصهيوني العنصري على مقاعد الدراسة. إذ انخرط بشارة مبكرا في صفوف الحركة الطلابية ودافع عن الحق العربي الفلسطيني في أرضه ضد كل مخططات التهويد والتمييز. ومن سخرية الأقدار أن هؤلاء لم يجدوا في سجله النضالي إلا إعادة تكرير التهم الكيدية التي كالتها إسرائيل ضد عزمي بشارة، فيقولون بطريقة الغمز كما ذكرت مجلة "المجلة" مؤخرا، أنه اتهم بقضية بـ"مساعدة العدو في زمن الحرب"، و"غسيل أموال" وهي الصياغة الإسرائيلية الصهيونية لتهمة "الوقوف مع المقاومة في الانتفاضة الثانية وفي الحرب على لبنان"، ولتحصيل الدعم للحركة الوطنية في الخارج. وهل هذه تهم أم أوسمة شرف؟ وقف عزمي بشارة مجاهرا بتأييد المقاومة وفضح عنصرية إسرائيل من الداخل. فهل يمكن لعاقل أن يقبل أن تصل الصفاقة وربما الغيرة إلى حد استخدام أحكام وحجج دولة يصنفونها بالمعادية للنيل من مناضلنا؟

افتراءات وأكاذيب

إذا كان سجل عزمي بشارة النضالي في الداخل هو أفضل رد على مروجي هذه الادعاءات، فإن سجله في منفاه القسري هو أيضا فيه الرد اليقين على افتراءات هؤلاء المأجورين. ألم يكن بشارة ذلك المناضل المحتفى به في العواصم العربية وصاحب التجديد ونصير المقاومة ومنظرها، والمجدد في بناء تصور حول العروبة الديمقراطية، لكن لماذا تم تناسي هذا الاحتفاء واختفت مسميات التبجيل عند البعض؟ فهولم يغير مواقفه من الصهيونية والمقاومة، ما تغير هو اندلاع الثورات واتساع شعبيته عند جيل الشباب. لقد انحاز إلى الشعوب العربية في ثوراتها في موقف مبدئي مثابر ضد الظلم ومن أجل العدالة.

إن انحيازه للشعب التونسي والمصري والليبي واليمني في ثوراتهم، جمعت ضده أزلام الاستبداد والفساد والرجعية، ومع انحيازه للشعب السوري في ثورته، أضيفت إلى جوقة الاستبداد جوقة استبداد أخرى. لكنها تتميز عن الأولى بادعائها الوقوف ضد إسرائيل. ولكن الثورة السورية أثبتت أداتية قضية فلسطين بالنسبة لهم. فالعميل يصبح وطنيا إذا وقف مع النظام السوري، والوطني يصبح عميلا إذا وقف مع الشعب السوري. وهذا يعني أن البوصلة ليست فلسطين بل النظام، وربما الطائفية؛ أما بوصلة عزمي بشارة فهي العدالة والحرية وفلسطين والعروبة، ولهذا يقف مع الشعوب ضد الظلم ومع مقاومة الاحتلال وضد هيمنة التحالف الأمريكي-الصهيوني في الوقت ذاته. لقد تأسست رؤيته أسوة بالعديد من المفكرين العرب الجادين على أن الانعتاق من التبعية لقوى الاستعمار وفي مقدمها الاستعمار الصهيوني على توفر شرط إنهاء الاستبداد الداخلي وإعادة الاعتبار للإنسان العربي.

وهنا تكمن سخرية الأقدار، إذ إن للاستبداد والفساد مئات الأسماء وآلاف الوجوه والتعابير، لكن له جوهر واحد يرفض حرية الشعوب ومنحها حقوقها، فضلا عن انتقائية تأييد الثورات، فهم يؤيدون ثورة عندما تفيد مصالحهم، ويعارضون ثورة اخرى لها نفس الأسباب لكنها تقف ضد مصالحهم، هذا هو حال المحاور في المنطقة. فهم لا ينطلقون من موقف مبدئي، وإنما من موقف مصلحي، وأحيانا طائفي فعلا. وكما هي الحال بالنسبة للقضية الفلسطينية، والتي كانت في أغلب المراحل، ورقة للمتاجرة والمزايدة، والتنافس بين الأنظمة العربية وصراعاتها البينية، فإن فلسطين بالنسبة لهم مجرد شعار يرفعونه متى يريدون ومتى يتناسب مع مصالحهم. ثم ما يلبث أن يختفي عندما لا يكون هنالك مصلحة فيه.

مشروع فكري متجدد

إن بشارة المناضل والسياسي لا يقل أهمية عن كونه المفكر العربي صاحب الرؤية التنويرية، ولقد أودع بشارة المكتبات العربية صنوفا من الأعمال الفكرية والأكاديمية وحتى الأدبية وهو المفكر المجدد، فمن المجتمع المدني، إلى الانتفاضة والمجتمع الإسرائيلي، و"عرب إسرائيل: رؤية من الداخل" ورائعة "طروحات النهضة المعاقة" التي بشرت بالحاجة إلى نهضة جديدة، وإلى "من يهودية الدولة حتى شارون"، وصولا إلى "في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، وشروحاتها في "أن تكون عربيا في أيامنا"، استطاع هذا المفكر الحقيقي أن يؤسس نظرية نقدية للمجتمع العربي ورؤية استشرافية لمستقبل ديمقراطي عربي، أرفدها بمئات المقالات العلمية في مختلف مجالات الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة والنضال الواعي من أجل قضية فلسطين والعروبة.

ولما حط في منفاه القسري، وإن أوقف نشاطه السياسي نهائيا، فقد واصل عطاءه الفكري والمؤسسي والنضالي، بتأسيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تلك المؤسسة التي أصبحت وخلال زمن قياسي بمثابة واحة لملايين الأكاديميين والمفكرين والمثقفين العرب وبالذات الشباب، وفي حين كان خصومه يواصلون أكاذيبهم ضده، كان هو يواصل إنتاجه الفكري بتأليف عدة كتب، كانت بمثابة عناوين معرفية للحاضر والمستقبل، من "الثورة والقابلية للثورة" إلى "الثورة التونسية المجيدة"، و"ثلاثية الدين والعلمانية"، و"سورية درب الآلام نحو الحرية"، وغيرها من الأبحاث عن الفكر والعدالة والوعي والهوية والانتماء، ويكفي أنه في اقل من عامين استطاع هذا المركز أن يصدر اكثر من ثمانين كتابا وثلاث مجلات علمية دورية، هي "عمران" و"تبين" و"سياسات عربية"، وما أعرفه أن هذا المركز يتمتع باستقلالية أكاديمية تامة.

من المهم التذكير بأن بشارة، وعلى الرغم من استضافته بقطر لم يقم ولا مرة بمدحها أو الترويج لسياساتها، وفي واقع الأمر إن من قام بالترويج للدولة القطرية وكيل المديح لها ولحكامها، وعلى مدار أعوام، حتى حين كان فيها مكتب تمثيل إسرائيلي، هم أولئك الذين يقومون بشيطنتها الآن ويصمتون عن دولة فيها مكتب إسرائيلي وسفارة حتى إذا كانت معهم ضد الشعوب.

لا يعيب عزمي بشارة أو مواطن عربي أن يعيش في بلد عربي، إلا إذا كان هؤلاء يعتقدون أن جميع المثقفين العرب يجب أن يعيشوا في المنافي البعيدة، أو أنهم يفضلون أميركا مثلا! وهو يقول في أحاديث خاصة ربما يصح أن يُنتقد عزمي بشارة لأنه لم يوجه حتى كلمة شكر لقطر، وهي تستحق الشكر على استضافتها له وإسرائيل تلاحقه حين جبن آخرون، ومكنته من تحقيق أحلامه بدعم البحث الأكاديمي العربي، وكل هذا دون أن تتدخل بما يقوم به، أو تفرض عليه أي شروط.

قد تتفق مع أفكار وتحليلات ومواقف عزمي بشارة أو تختلف معها، لكنه سيظل الظاهرة الأهم في الوطن العربي المعاصر لناحية الجمع بين المشروع الفكري والثقافي والسياسي، والصوت الذي تعلقت به أفئدة ملايين الشباب العربي، ليس ذلك من باب التملق والتزلف، فالرجل ظل ملتزما بالفكر الجاد والبحث الدؤوب عن كل جديد، وتأسيس معرفة تجدد العقل العربي.