ماذا لو فتحت ذاكرتي نقداً لا جلداً على أيام شبابي وأحلامي البعيدة المدى إبانها، التي يأتي بعدها أو ابتعادها، من لوعة أو خيبة متراكمة أو شوق مشتعل الى مجد صعب، حيث تكون الفتوة أكثر اندفاعاً وأقل تدقيقا ؟.
وما يضير الواحد منا، إذا ما استذكر شطحاته العابرة للواقع والممكن، والمستساغ احياناً؟. وهل النضح اللاحق، لو سلمنا به، في التجربة والمعرفة، والذي قد يملي عليك الخروج سالماً من الجملة الثورية، بأقل قدر ممكن من الخسائر، الى الواقعية، هو تخل عن الأفكار القيم ؟ أم انه ترتيب ملائم للأحلام المشروعة، بعد فرز الممكن منها والسليم عن المحال والمريض ؟.
في اليوم الأول من عام 1976، كنت على تعب ونعاس شديدين وإحساس متدن بالجدوى، وشعور بفقدان اللغة، أشارك في احتفال جماهيري في مدينة صيدا، في ذكرى انطلاق الرصاصة الأولى على العدو الصهيوني عام 1965 من بندقية «فتح»، وعندما اعتليت المنبر خالي الوفاض إلا من الرغبة المحتدمة بالتحرير السريع وكيفما اتفق، لم أجد ما أقوله، وبعد تلكؤ وتردد وجمل غير مفيدة وغير متصلة، استحضرت حماساً داهمني قبل أيام في المكان نفسه (السينما) عندما كنت أصغي الى خطاب قيادي لبناني تسنم موقعه الأعلى في حزب قومي عربي منذ ثلث قرن ولم يغادره حتى بعد وفاة الحزب بوفاة رئيسه، ندّد بالقيادة الفلسطينية المترددة والمتخاذلة والمريضة بقطريتها الفلسطينية واستهتارها بالشأن القومي ومراوغتها في التعاطي مع الأهداف القومية، وعدم مشاركتها الحاسمة في إسقاط النظام اللبناني لصالح نظام تقدمي، ووجدت في مجاراة الرفيق فرصة لإنقاذ نفسي من الفراغ والعدم، ودائماً، أو كثيراً حتى لا نظلم بعض حسني النية وإن أساؤوا الفهم والتقدير، كان الشأن القومي العام المبهم مهرباً من الشأن الوطني، أو القطري.. وهكذا اعلنت بصوت عندما حاولت أن أجعله جهورياً لم يسعفني لضعف عضوي في حنجرتي، فانقلب صراخاًً حاداً مجروحاً ومنفراً، ولو كان جهورياً كما أحببت وقتها، لأصبح قاتلاً، والحمد لله على العافية، وأدنت بكلام لا يقبل تأويلاً، حركة «فتح» على التزامها (؟) بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للأقطار العربية. وعرفت لاحقاً ان كلاماً كهذا، في لبنان ولأسباب لبنانية، لا يمكن أن ينطبق على الواقع، لأن هناك قابلية لبنانية على لبننة أي شأن قومي أو أممي، أي تنزيل اللبناني على القومي أو الأممي ولو تعسفاً، في حين ان القومي لدى أقطار ذات التزام قومي صريح، ينزل الشأن على المحلي (العراق وسورية) ! وبعدما فرغت من خطابي، لاحظت في عيون الكثير من الأصدقاء شيئاً كالعاطفة المشوبة بالحزن أو الشفقة، من وقوعي في فخ التبسيط، وبعدها بأيام بادرني قيادي فلسطيني يساري أممي لم يلبث أن خفف من يساريته قليلاً، بشكره لي باسم فلسطين من النهر الى البحر على إخلاصي لها، ولكنه سألني بمحبة وقال: ولكن ماذا عن لبنان ولبنانيتك والمشروع الوطني اللبناني الذي تحمله ؟ ردني هذا السؤال الى وعي كان يفارقني، أو فارقني منذ ودعت طفولتي والمدرسة الابتدائية والنشيد الوطني صباحاً والرسم المتكرر للعلم والأرزة الخضراء والإعجاب الشديد بمؤلف كتاب التاريخ الذي قال: ان لبنان مشتق من اللبن لبياض ثلجه أو من اللبان لبياض ثلجه ورائحة أرزه وصنوبره وشيحه وسنديانه وملوّله الخ.. وبقيت بين فترة وأخرى، بين تجربة وتجربة، بين كتاب وكتاب، أحاول استعادة هذا الوعي أو اعادة تأسيسه على توسط واعتدال ووعي للتركيب في التكوين والانتماء الوطني، ولكن أحداثاً كبرى كانت تداهمني وتقطع مسيرتي الى وعي مطابق، وكان آخر ما داهمني مفصل الثورة الاسلامية في إيران، بعد كامب دافيد. وسبق لي أن انخرطت في الشأن الإيراني عبر لفيف من القيادات الإيرانية، الدينية والمدنية الناشطة في المنافي ضد نظام الشاه الظالم والمعادي لفلسطين.
وكان اشتعال الثورة مجدداً في إيران، في الأيام الأخيرة من عام 1977، فرصة لأجدد المراودة للآفاق الأبعد، ما أفضى بي الى الوقوع في وهم العضوية الكاملة في اللفيف والشأن الإيراني، الى أن فاجأني، بعد نجاح الثورة، اثنان من الأصدقاء في القيادة الإيرانية، شاركتهما عناء مقدمات الثورة المنتصرة وأيامها الصعبة، حيث اعترضت على حركة من حركاتهما استناداً الى حق تتيحه لي عضويتي الإيرانية التي كشف لي الصديقان الرفيقان والأخوان انها مسلمة لدي ولكنها ليست مسلمة لديهما، وقالا بالفم الملآن: عزيزنا هذا شأن إيراني بحت وأنت لبناني بحت، وأهلاً وسهلاً بك في إيران الثورة والدولة، عزيزاً كضيف أثير لدينا وشريك مشكور على رفقتك لنا وتضحيتك إبان الجهاد ضد الباطل في نظام الشاه الباطل البائد، أما الحق الذي نريد أن نحققه بعد سقوط النظام، فدع أمره بالكامل إلينا، لأن شأننا المنشود يمر بأماكن وعلائق ومفاهيم وخصوصيات وحساسيات ليس من شأنك أن تعرفها.. وتذكرت اعتراضي على إريك رولو في قم بعد شهر من نجاح الثورة عندما قال: هناك اسلام في إيران ولكنه إيراني. وجاء ردي أممياً، فرشقني رولو بنظرة فهمتها لاحقاً.