برغم كل المجاملات المنافقة، ورغم كل عمليات التجميل والترقيع، ورغم كل افتعال الهروبيات، فإن الامة العربية في زمنها المعاصر, وخاصة في السنوات الثلاث الاخيرة من الفوضى المفتوحة على افق مجهول, لا تعطي علامة واحدة على نجاحها أو اهليتها في الاستجابة للتحدي, انها اشبه بمنظومة افتراضية, يمكن ان تكون موجودة في قصيدة, في نبوءة, في مسرحية تنتمي الى مسرح الوهم, اللامعقول, ولكنها غير متحققة فعليا على ارض الواقع, لا في منظومات امنية حقيقية, ولا في مشاركات سياسية نابعة من ضرورات مجالها الحيوي, ولا في مساهمات حضارية جادة, انها لا تستمع الا الى صوت اعدائها, ولا تؤمن بشيء سوى خداع النفس.
أين هو التحدي الان؟
انه يتجسد في القدس, في معركة القدس من اجل البقاء, في استمرار الاقصى اسيرا ولكنه عربي مسلم, اي استمرار الاقصى بحده الادنى, مع ان القدس تبعا للكتاب والسنة, وتبعا للميراث والتاريخ, وتبعا للطموح والامل, ليست مجرد مدينة, وليست مجرد ملكية, وليست مجرد قرار شرعية دولية, انها اكبر من ذلك الف الف مرة, انها مكون رئيسي من مكونات ذاكرة الامة, ومكون رئيسي من مكونات عقيدة امة, والنص القرآني شديد الوضوح في الربط الكامل بين المسجد الحرام في مكة والمسجد الاقصى في القدس, والنص النبوي شديد الصراحة في الدعوة الى وحدة هذا الثالوث الاسلامي, المسجد الحرام, والمسجد النبوي والمسجد الاقصى, بل ان المعجزة الكبرى, معجزة الاسراء والمعراج التي حدثنا عنها القرآن من عجائبها الكبرى, ومعانيها العميقة, ومحطاتها المذهلة, ترافقت مع الخطوة الاولى في تشكيل الامة العربية الاسلامية, فكان اول امر الهي هو رحلة الاسراء والمعراج, واول فعل اسلامي مباشر ومعلوم هو زيارة الخليفة عمر بن الخطاب الى القدس, واول هزيمة للدولة الصليبية الممتدة من ايطاليا الى العريش هي عودة القدس الى الاكتمال العربي الاسلامي !!!
أين القدس الان؟
لقد ضيعها العرب باتقان, حين خلفوها وراءهم وذهبوا الى افغانستان, وحين عبدوا النصوص الاسرائيلية الصهيونية التي تحرم زيارة القدس, اي تحرم نجدتها, وحين زايدوا على بعضهم بالحد الاقصى حتى لا يلتزموا بالحد الادنى, ولو سألنا يهوديا من اطراف الفلاشا في الهضبة الاثيوبية: ما الذي يلزم لتحويل خرافة الهيكل الثالث الى واقع؟ لأجابنا بالتفصيل الدقيق, بينما لو سألنا كل اساتذة العلوم السياسية في جامعاتنا العربية والاسلامية: ما الذي يلزم لتبقى القدس الشريف الموجودة فعليا على الارض صامدة؟ لجاءنا الجواب من تسعين بالمئة منهم متلجلجا, جاهلا, كما لو انهم ذرات في الفراغ.
ها نحن منذ ثلاث سنوات, نكتشف الخديعة الكبرى حين اقمنا مع اسرائيل سلاما لنحمي حدودها, بينما تركنا حدودنا مفتوحة وسائبة لكل هذا القيح والصديد ولكل هذا الغل والحقد, ولكل هذا التاكل والافول! اين كنا جميعا بينما كان هذا الخراب الذي كشفته ثورات الربيع العربي يتتراكم؟ اين كنا وكل هذا الفعل المعادي يسري في دمائنا ويتراكم في ارحام نسائنا, ويتلوى في باحات مساجدنا وفي قاعات جامعاتنا؟ شبه عقيدة كاملة من النفاق, وثقافة متراكمة من انسحاق الذات بل الحقد على الذات! كم هي مذهلة وعبقرية هذه الفوضى البناءة, وحروب الجيل الرابع, واعادة تقسيم «سايكس بيكو», حروب طاحنة تسحقنا في بلادنا واعدائنا ابرياء من دمنا, يغسلون ايديهم على الملأ, ويقولون لنا اشهدوا انكم قتلتم انفسكم.
يا ايها العرب،
القدس ليست عبئا عليكم, القدس خلاصكم وقيامتكم, ان بقيتم هكذا تهربون منها الى اوهام سلامتكم, فكيف ستقومون من موتكم وكيف تتخلصون من مهانتكم؟ تعالوا الى القدس فليس لديكم غيرها تعيد لكم الاعتبار بانكم امة لها ضرورات كثيرة وليس مجرد افتراض من الوهم.