بقـلم/ صقر أبو فخر

لا نُجازف في الاستنتاج إذا قلنا إن الأحوال التي يرزح تحتها أهالي قطاع غزة لا تُطاق البتة؛ فحتى المنفذ شبه الوحيد لاستيراد السلع الضرورية، أي الأنفاق، أُقفل، والحياة اليومية تسير بوتيرة من القلق وفقدان الأمل بالمستقبل وانعدام الأمان الفردي وغياب الحريات، علاوة على ارتفاع الأسعار.

أما المخاطر الجديدة فتتمثل في انتشار ظاهرة السلفية الجهادية بشكل أميبي (الكائن المتحول). فبعدما كانت مقصورة على مجموعات دعوية في بعض المساجد، تحولت إلى تيار متشابك من المجموعات القاعدية التي تمتلك الأموال والسلاح، والتي يرتبط بعضها ببعض بعلائق استخبارية خفية تمتد لا إلى سيناء وحدها، بل إلى مغاور تورا بورا في أفغانستان. وتعبر هذه الظاهرة الخطرة عن فشل حركة حماس فشلاً ذريعاً في إدارة شؤون قطاع غزة بالطريقة الملائمة؛ فهي عجزت عن الاستمرار في مشروع المقاومة إلا من خلال الخطب والبيانات، وفشلت في تقديم نموذج جذاب للحكم، وفشلت في حماية المجتمع الفلسطيني من مخاطر التكفيريين.

إن نمو المنظمات السلفية ذات الطابع القاعدي في قطاع غزة لا يهدد سلطة حماس فحسب، بل يهدد النخب الفلسطينية الديمقراطية وقاعدة حماس وأعضاءها بالقتل أيضاً، لأن الجماعات الارهابية المسلحة التي تتبرعم اليوم في غزة بات بعضها يعتقد أن حماس صارت عقبة أساسية أمام انتشارها، لأن حماس تنازعها على المرجعية الاسلامية، وتقطع الطريق أمام انفرادها بعقول الناس وسلوكها. وأبعد من ذلك، فإن حماس (وكذلك حركة الجهاد الاسلامي) ما عادت هي الخيار الاسلامي الوحيد في قطاع غزة، بل إن بعض الشبان المهمشين والمحبطين يجدون ضالتهم اليوم في المجموعات التكفيرية التي تنتقل بين سيناء وقطاع غزة.

نحن لا نتهم حماس أبداً بدعم الجماعات الارهابية في سيناء كما تروج الدعاية المصرية التي تطرَّف بعضها حتى حدود العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني؛ فالإرهابيون في سيناء لا يستمدون دعمهم المباشر من حركة حماس في غزة البتة، بل من بعض الجماعات التكفيرية الموجودة في القطاع. لكن حماس هي المسؤولة عن تفاقم وجود هؤلاء وانتشارهم الخطير، الأمر الذي يهدد مصير الفلسطينيين وأمنهم، ولا سيما أن القطاع بات محاصراً من الجانب المصري، ومن الجانب الاسرائيلي معاً. وما يزيد في المخاطر الأمنية على أهالي غزة أن الصواريخ التي كانت تُطلق على اسرائيل من القطاع كان مصدرها معروفاً في السابق، فهي تنطلق إما من منصات تابعة لحماس أو للجهاد مثلاً. أما الآن فما عاد هناك أي عنوان معروف على الاطلاق، وصار سكان غزة كلهم أهدافاً لإسرائيل.

بدأت الجماعات السلفية المسلحة تظهر في قطاع غزة منذ سنة 2005، وراحت تطل برؤوسها أكثر فأكثر بعد انخراط حركة حماس في نطاق السلطة الوطنية الفلسطينية، أي منذ سنة 2006 فصاعداً. وتفاقم ظهور هذه المجموعات منذ سنة 2007، أي حين عمدت حركة حماس إلى تنفيذ انقلابها في قطاع غزة بذرائع واهية تبين لاحقاً أنها كانت غير صحيحة على الاطلاق. ففي برنامج "نقطة نظام" على محطة "العربية" (6/7/2007) اعترف محمود الزهار بأن حماس بدأت التحضير للسيطرة على قطاع غزة في أيلول 2006، وأنها وضعت خطة للسيطرة على الأجهزة الأمنية ومقراتها، وأنها حفرت أنفاقاً تحت مواقع هذه الأجهزة منها مقر الأمن الوقائي في خان يونس. وهذا يبرهن أن حماس لم تكن ترغب، منذ البداية، في أي شراكة مع حركة فتح.

إن المجموعات السلفية المسلحة نشطت في بادئ الأمر من خلال الانترنت لكنها سرعان ما تحولت إلى العمل الحركي. وأدت التصريحات المتتالية لقادة حماس الى انشقاق بعض هؤلاء السلفيين عن الحركة أمثال ابو المعتصم المقدسي (محمود طالب) الذي كان أحد قادة كتائب عز الدين القسام، وانشق عليها في سنة 2009. وبهذا المعنى فقد غذّت تصريحات خالد مشعل والشيخ محمد أبو طير الميل إلى الانشقاق لدى بعض السلفيين. وعلى سبيل المثال، كان خالد مشعل قد اعترف بإسرائيل في احدى مقابلاته الصحافية بقوله: "نحن كفلسطينيين اليوم من خلال وثيقة الوفاق الوطني (...) ارتضينا سقفاً وطنياً سياسياً هو دولة على حدود الرابع من حزيران 1967 (...) ولا بد من إيضاح حقيقة مهمة وهي أن القبول بحدود عام 1967يعني اعترافاً بوجود اسرائيل" (مجلة "المشاهد السياسي"، 18/3/2009). وفي مقابلة أخرى مع مجلة "نيوستيتسمان" (17/9/2009) قال مشعل: "التسوية السلمية هي الأكثر واقعية لحل الأزمة، وهي التسوية التي تبدأ بوقف النار بين الجانبين، والتي ترتكز على انسحاب اسرائيل من جميع الاراضي المحتلة عام 1967". وعلى هذا الغرار كان الشيخ محمد أبو طير، وهو نائب حمساوي عن القدس، أكثر وضوحاً حين أفصح عن "أن المقاومة لا تعني المقاومة المسلحة، بل المقاومة السياسية، وأن حماس ستفاوض اسرائيل أفضل من فتح، وأن التفاوض مع اسرائيل ليس حراماً".

إن هذه المواقف المخالفة لما هو معروف عن مواقف حماس الأيديولوجية، دفعت كثيراً من المجموعات السلفية التي كانت تتخفى تحت عباءة حماس إلى شق عصا الطاعة عليها علناً، فانشق "جيش الاسلام" عن حماس في سنة 2005 بقيادة ممتاز دغمش، وانشق حزب الله الفلسطيني في سنة 2008 عن سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الاسلامي و قاد الانشقاق أحمد عبد الله صلاح، وظهرت الجبهة الاسلامية لتحرير فلسطين في سنة 2008 التي هددت حركة حماس وأطلقت عليها تسمية "منظمة الايرانيين الشيعة". وعلاوة على هؤلاء ازدحمت في قطاع غزة منظمات ومجموعات كثيرة مثل كتائب التوحيد والجهاد، وجيش القدس، وجلجلت، وجند الله، وجند أنصار الله، وقاعدة الجهاد في ولاية فلسطين، وأنصار السنة، وجيش الأمة، وجيش الاسلام، وسيوف الحق وغيرها الكثير من المجموعات التي اندثر معظمها وبقي قليل منها. لكن في الفترة الأخيرة بدأت مجموعة جديدة تطلق على نفسها اسم "أنصار بيت المقدس" تنفذ عمليات ضد الجيش المصري وضد المؤسسات المصرية في قلب القاهرة. ومع أن ميدانها الرئيس هو سيناء بالدرجة الأولى، وأن أحد أبرز قادتها المعروفين شادي المنيعي وهو مصري، فإن الشكوك تحوم حول صلات وثقى ببعض المجموعات القاعدية الفلسطينية، الأمر الذي يجعل أمن الفلسطينيين مهدداً حقاً في قطاع غزة.

إن القضاء على المجموعات الارهابية هي مسؤولية مباشرة لحركة حماس التي شجعت أيديولوجيتها وممارساتها على نمو هذه الظاهرة، خصوصاً أن اسماعيل هنية لم يتورع عن القول في 20/7/2012" إن صفحات الخلافة الراشدة فُتحت"؛ فقد توهم أن وصول محمد مرسي إلى رئاسة مصر ستجعل حماس سيدة الموقف في فلسطين. لكن العقل المشيخي الذي لا يحسب حساب الأرباح والخسائر أو حساب المصالح أو تقلبات الأحوال أو الاحتمالات الممكنة، من شأنه أن يجر الويلات على شعبه، أو يورده مورد الهلاك. ولا سبيل إلى التخفيف من الخسائر الكبيرة التي أوقعتها حركة حماس بالسياسة الفلسطينية منذ سنة 2007 حتى الآن، إلا بالعودة إلى المؤسسة الفلسطينية الأم، وتسليم السلطة إلى صاحب الأمر. وهذا مجرد مدخل أولي لإنقاذ أهالي قطاع غزة من أهوال المجموعات التكفيرية المسلحة.