بقـلم/ محمد سرور

اعتدنا طويلا على التطاول وتسفيه مسارات سياسة حكام وقادة كثر في عالمنا العربي، وبذات القدر استسهلنا النيل من قدرنا وقدراتنا، لكي يسهل على ذوي الأجندات الإقليمية والخاصة تمرير خططهم وتأبيد ربط القضية الفلسطينية- وغيرها أيضاً بمشاريع عابرة للقضايا والكيانات.

لذلك أتمنى ولو لمرة واحدة توجيه التقدير والاعتراف بكفاءة وحرفية الرئيس محمود عباس على أدائه الصائب تجاه القضية التي يقود مسارها، خاصة في زمن الزلازل التي تقضُّ المنطقة العربية على مستويي السلطات والكيانات مجتمعة.

هموم الأنظمة والجماهير العربية تكاد تنحسر في قضايا الإرهاب والاقتصاد وكبح التناقضات والانقسامات الداخلية. وبالكاد بتنا نقرأ أو نسمع خبراً عن القضية الفلسطينية، وعن مشاريع التوسع والاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

كثيراً ما سمعنا ورأينا الحملات التي شنها قادة حماس وغيرها من ذوي القربى حتى من داخل منظمة التحرير وآخرين يحسبون أنفسهم على علاقة وثيقة بالقضية- هجمات مركزة تخوِّن الرئيس عباس وتشكِك في نواياه تجاه التنازل عن حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني.

هل كان مطلوباً وضع القضية الفلسطينية في درج النسيان العربي والأممي، أم أن الضرورة تقضي بإبقائها إحدى أهم عناوين القضايا العالمية؟

لنصارح أنفسنا وبعضنا بشفافية وموضوعية- أين أصبحت المقاومة المسلحة الداعية إلى التحرير من البحر إلى النهر، وهل يصل جدواها- حالياً- إلى حجم الكلفة الباهضة التي يدفعها الشعب الفلسطيني؟.

ألم تصبح غزة مجرَّد إمارة لشهوانيي سلطة وتسلط على رقاب أهلها، والهدنة مع العدو باتت "مصلحة وطنية ودنية"؟ بسؤالي لا أدعو إلى حرب التحرير انطلاقاً من غزة، إنما لكي نفتح نافذة البدائل الأكثر جدوى، أو بالأحرى الأقل كلفة-  ودائماً انطلق من الظروف الموضوعية الفلسطينية العربية والدولية.

للأسف اختارت حماس سياسة تقطيع الوقت وتوسيط الأتراك والقطريين وسلطة الأخوان في مصر- سابقاً لتجاوز مسألة المصالحة، وبالتالي حصر الدولة الفلسطينية في القطاع. بعد ذلك دخلت لاعباً سلبياً على جبهات الصراع العربي الداخلي في لبنان- قضية نهر البارد وفي مصر كطرف حيوي داعم لسلطة ومليشيا الأخوان المسلمين، وفي سوريا كطرف ملتبس بين الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية. قلت للأسف لأني بحاجة إلى اكتشاف إيجابية واحدة فرضتها حماس في مسيرتها السياسية ومن خلالها منحت زخماً نوعياً للنضال الوطني الفلسطيني.

نموذج الكيانات العربية الحالي لم يزل مثقلاً بموروثات التاريخ والأيديولوجيا. الصراعات داخلها تؤثر سلباً إلى إمكانية إعادة رسم جديدة لها وفق حال الانتشار الأثني- الطائفي والمذهبي.

أي دخول فلسطيني على خط هذه التناقضات والصراعات سوف يسقط القضية الفلسطينية وشعبها كأعداء وضحايا مجَّانيين، بحيث تتسع مساحة الحصار التي أنتجها واقع التشرذم الإقليمي والمحلي العربيين.

يتحدث المحللون عن عودة الحرب الباردة إلى الساحة الدولية، حيث تتكرَّر اللغة القديمة خياراً مزدوجاً للدودين التاريخيين الأميركي والروسي في التنافس على السوق الدولية. المحللون ينطلقون من زيادة البذخ على التسلح خلال العام 2013 بنسبة 0،6%، وباحتدام الصراع على الساحة السورية.

فيما التسويات الجزئية للملفين النووي الإيراني والكيميائي السوري فتحت نافذة على احتمالات السير بطريق تسوية جنينية تحتاج جهوداً جبارة لاكتمال الوليد وخروجه سالماً معافى. وإذا كانت محطة جنيف 2 واحدة من الشواهد السلبية والدالة على عمق الصراع الدولي والسوري معاً فإنها ليست أكثر من بداية يلزمها تراكمات شاقة على أسس مرحلية- تطبيعية لإنضاج حل كلفة استعصائه لحد الآن ما يزيد على ال 130 ألف ضحية، ناهيك عن الجرحى والأسرى والدمار الذي يفوق الوصف وملايين المهجرين في سوريا والدول المحيطة بها.

خلاصة القول هنا أنه بالإمكان تقدير مسار العلاقات الأميركية- الروسية باتجاه حرب باردة جديدة، لكن لا يجوز حرق المراحل التي قد تقودنا إلى تلك الحال قبل أن تتضح معالم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة والعالم، إذ لم تزل تحول دون ذلك معوقات جذرية وعميقة تتصل بعدم وضوح خارطة التناقضات الداخلية في الكيانات القلقة، وبعدم حسم المعركة طويلة الأمد مع "الإرهاب" بمكوناته كافة.

في هذا الخضم المتحرك حاولت القيادة الفلسطينية ولم تزل إبقاء جذوة القضية مشتعلة من خلال هجوم السلام العادل الذي اختارته وسيلة أمام العالم أجمع. وعليه لا بد من طرح السؤال التالي: هل يجوز لقيادة ائتمنت على قضية بحجم القضية الفلسطينية أن تقف مكتوفة اليدين وأن تكتفي بالانتظار إلى أن تعود فلسطين هوية العرب الأولى، ومعها تستيقظ جحافل المقاومين الذين سوف يحررون فلسطين بواسطة الكفاح المسلح؟

بفضل السياسة الواضحة والإيجابية التي اعتمدها الرئيس عباس زاد عدد المتضامنين مع القضية الفلسطينية. كما زاد عدد المؤسسات والجمعيات المقاطعة لإسرائيل، كما تدل المؤشرات الاقتصادية على أن الكيان الصهيوني بصدد مواجهة أزمة اقتصادية لم يشهد مثلها، وأن حكومة نتنياهو تواجه أزمة خيارات جدية هذه المرة، بين الاستجابة لمقترحات وزير الخارجية الأميركية أو الحفاظ على ائتلافه اليميني- الديني المتطرف. فالهجمة العنيفة التي يحاول اليمين المتطرف حصرها بالسيد جون كيري تبدو الخيار الأسهل لديه من هجمة شاملة على إدارة الرئيس باراك أوباما، مع أن زعيم حزب المستوطنين نفتالي بينيت هدد بالانسحاب من الائتلاف الحكومي إذا ما وقع نتنياهو مسودة "اتفاق الإطار" التي تقدم بها الراعي الأميركي للمفاوضات، ومعلناً أن "الشعب اليهودي أقوى من التهديدات الموجهة إليه" مضيفا "لا يمكن شراء القيم وتحديد سعر أمن إسرائيل" وذلك رغم توجيهات نتنياهو لأعضاء حكومته بعدم مهاجمة السيد كيري، ورغم اضطرار رئيس الدولة- شمعون بيريز- الرد على اتهامات اليمين الإسرائيلي المتشدد لكيري بتأجيج حملة مقاطعة إسرائيل، حيث اعتبر أن الوزير الأميركي "لم يأت إلى المنطقة لمواجهة إسرائيل، إنما لتحقيق السلام".

هناك أزمة داخلية حقيقية تنتظر إسرائيل، لأن الثمن الذي سوف تدفعه، بفضل تمردها على العالم وقيمه وقراراته، سيكون باهضاً وعلى حساب الطبقات الاجتماعية كافة. كذلك سوف يؤدي استعلاؤها وتجاوز اللياقات الدبلوماسية لوزرائها ومتطرفيها إلى أزمة شرعية توازي في مفعولها ما واجهه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

الرئيس عباس لم يحشد جيوشاً، ولا أدعى القدرة على "زلزلة الأرض تحت أقدام المحتلين" بل التزم مساراً مسالماً أثبت نجاعته وكرَّس الثقة الدولية بسياسته وتوجهه السلمي وفق مقررات الأمم المتحدة والقانون الدولي.

فتحذيرات وزير الخارجية الأميركية ومثلها تحذيرات الزعماء الأوروبيين لم تكن لولا الاستشعار بالعداء المتنامي للسلوك العدواني الإسرائيلي تجاه حقوق الفلسطينيين التي لا تحتاج كبير عناءٍ لإثباتها. ففي دول كالدانمرك وهولندا- كانتا تاريخيا تؤيدان إسرائيل دون حساب- بدأت تباشير المقاطعة، ناهيك عن تطور النظرة المعادية لإسرائيل لدى شرائح المجتمعات الغربية، وأكثر ما يزعج تلك الدول- دبلوماسييها ومثقفيها تنكر إسرائيل المتنامي لفضل أوروبا في الإسهام ببناء إسرائيل وحمايتها وحرصها على أمنها ومصالحها. وإذ تعتبر أوروبا أن إعادة الأراضي المحتلة عام 1967 لأصحابها يفك عقدة صراع عمره من عمر أول مستوطنة زرعت في الأراضي الفلسطينية، وأن الحق والعدالة الدوليين ينطبقان على إسرائيل كما على غيرها من دول العالم.

فالدبلوماسية الإسرائيلية التي غالباً ما رشقت منتقديها- حتى حلفائها منهم- بتهمة العداء للسامية وكره اليهود ودعم الإرهاب الفلسطيني بدأت تفقد زخمها والتجاوب مع ما تسوقه من اتهامات. وما قرار الاتحاد الأوروبي مقاطعة منتجات المستوطنات الزراعية والصناعية إلا دليل على فقدان تلك التهم لمفعولها الضاغط على الأوروبيين، فيما يقدر الخبراء الاقتصاديون خسائر إسرائيل من تلك المقاطعة بحوالي 20 مليار دولار.

تقف إسرائيل اليوم عارية من أسلحتها الهجومية بوجه الداعين إلى وقف سياسة الاحتلال والتمييز والتوسع على حساب الشعب الفلسطيني. فالخطاب الممجوج تجاه كل من ينتقدها استنفذ مفعوله السياسي والأخلاقي، وأصبح من السهل استحالة الرأي العام باتجاه مقاطعة إسرائيل كآخر معقل استعماري على الأرض.

ما يخيف الآن، أن تتلاقى مصالح قوى محلية وإقليمية مع نوايا صهيونية على تصعيد عسكري سهل التبرير بفعل الحاجة الإسرائيلية، مقابل حاجة آخرين تفعيل مظلوميتهم- على حساب غزة بالطبع- لكي يكرروا سيناريو البحث عن شرعيتهم التي ضاعت في زواريب قضايا بعض الدول العربية.