كمان كان الحال في الانتخابات السابقة، من المنطقي توقع ان تتحمل حركة فتح تبعات اداء السلطة الوطنية عند أي انتخابات قادمة، وان تدفع ثمن ذلك من اسهمها الانتخابية، فعادة ما يحاسب الناخبون الحزب الحاكم على اداءه، وهي طريقة فضلى يجبر المواطن عبرها الاحزاب الطامحة للحكم في ان تصوب اداءها كي يعاد انتخابها.
الا انه وفي الحالة الفلسطينية فان محاسبة فتح على اخطاء السلطة فيه ظلم للحركة وأبناءها، وذلك ان الواقع الفلسطيني، كما نعلم، حيث الاحتلال الاسرائيلي يسيطر على مفاصل الحياة، يحد من قدرة السلطة وحكومتها على الانجاز الاقتصادي والتنموي كما يطمح به المواطن هو محدود جدا، واجزم ان أي حكومة مهما كان لونها السياسي لن تستطيع ان تنجز الكثير، ففكرة التنمية في ظل الاحتلال ثبت فشلها وعقمها.
اما سياسيا، وفي ظل استحالة تحقيق الحد الادنى من الطموحات الوطنية مع حكومة اسرائيل الحالية عبر المفاوضات واستبعاد خيار الكفاح المسلح، فان واقع الحال يشير الى ان خيارات المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي تكمن في ثلاث جبهات: الاولى، ساحة القانون الدولي والانتساب للمنظمات الدولية، وهي مهمة تقع على عاتق منظمة التحرير، وثانيا المبادرة في توسيع رقعة العمل الشعبي بشكل استراتيجي، اكبر مما نراه حاليا من مبادرات شبابية هنا وهناك يسارع الى تبنيها مرضى "متلازمة كاميرات الفضائيات" وساكنو مواقع التواصل الاجتماعي، فيما الكادر الفتحاوي متفرج او في احسن الاحوال يشارك بخجل. اما الخيار الثالث والذي لا يقل اهمية عن سابقيه يكمن في تبني خطاب المقاطعة لإسرائيل والعمل على قدم وساق مع حركات التضامن العالمي في هذا الاطار.
فما دام المنطق يفترض ان حركة فتح ستحاسب عبر صندوق الاقتراع، فربما من المهم للحركة أن تستعد لذلك اليوم مبكرا. وهذا الاستعداد لا يكون عبر اعداد منشورات وصور تعلق على الحائط ومهرجانات خطابية وفنية، ضمن حملات اعلامية وغيرها من الادوات الدعائية، بل عبر اعادة صياغ خطاب عملي مقاوم يكون بمثابة رسالة الحركة التي تقنع بها الناخب، اذ قبل التفكير بالأدوات، الاجدر التفكير بالرسالة التي ستطرح وليس ادوات نقلها.
غياب الفعل الفتحاوي في الشارع احد مشكلات الحركة الحالية، والتي ربما على كادرها ان يقف مليا عندها في مؤتمر الحركة القادم.
هذا الغياب لا يعود الى انحسار الزخم الجماهيري لفتح وانحدار اعداد منتسبيها ومؤيديها، بل ان ابرز ما يميز هذه الحركة ككثير من الحركات الوطنية والاجتماعية حول العالم ان عناصرها يشكلون شبكة متصلة تشتد وتزداد فعاليتها عند الازمات، وما قيادة ابناء فتح للمواجهة مع الاحتلال طوال سنوات النصال الوطني والزخم الشعبي التي توفره الحركة خلال المواجهة الميدانية الا مثال على قوة الشبكة الاجتماعية والميدانية لحركة فتح.
قد يعود انكفاء حركة فتح عن الاخذ بزمام المبادرة في هذه المرحلة الى تسليمها بشكل غير مباشر بفكرة ان العمل السياسي والاجتماعي يقع فقط على عاتق مؤسسات السلطة، وأن حركة فتح لا دور سياسي او اجتماعي رائد لها في ظل وجود السلطة.
صحيح انه من الصعب ان تكون فتح على مسافة بعيدة من السلطة، او حتى ان يقتنع المواطن بذلك، في وقت يعرف القاصي والداني ان السلطة الوطنية كمشروع وطني هي صناعة فتحاوية بامتياز، اضافة الى التداخل الكبير بين العمل في المؤسسات الحكومية والانتماء لفتح وهي احدى الظواهر الابرز التي نشأت عند قيام السلطة الوطنية، في وقت نرى ان التبني الدائم لقرارات مؤسسات السلطة هي السمة الدائمة للخطاب الفتحاوي.
ورغم هذه العوامل، فان هناك مساحة واسعة من العمل السياسي يمكن لحركة فتح ان تلتفت اليها بشكل اكبر. فان كانت السلطة السياسية في ظروف سياسية لا تشجعها على التبني الصريح لحملة المقاطعة العالمية لإسرائيل وتكتفي بالتركز فقط على مقاطعة منتجات المستوطنات، فان تلك المواقف ليست بالضرورة ان تكون ملزمة لحركة فتح. وبناء عليه، ليس هناك ما يمنع ان تقر فتح استراتيجية تقوم على اساس التبني الواضح والصريح لحركة المقاطعة العالمية التي تستهدف الشركات والمؤسسات المدنية والاكاديمية الاسرائيلية وشريكاتها العالمية التي تعمل داخل المستوطنات في الاراضي المحتلة او منخرطة في مشاريع مع المؤسسة العسكرية الاسرائيلية.
هذا التبني يستلزم من حركة فتح ان تعيد صياغ خطابها المقاوم تجاه تشجيع حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، بل وان تعمل الى جانب نشطاء حملات التضامن مع الشعب الفلسطيني في اوروبا والولايات المتحدة في هذا الاطار وفي غيرها من حملات التضامن، الى جانب توفير ما امكن من جهود وموارد لدعم حركة المقاطعة.
غياب حركة فتح عن ساحات العمل الخارجي قد يكون له اسبابه التاريخية المرتبطة بانتقال ثقل العمل النضالي الى داخل الوطن المحتل، الا ان النجاحات التي لاقتها حركة المقاطعة والتي يعود فضل كبير في ذلك الى فعالية شبكات التضامن مع الشعب الفلسطيني داخل الجامعات الاوروبية والامريكية وخارجها، يحتم على فتح ان تلتفت الى هذه الساحات والعمل بشكل قريب مع حركات التضامن، ذلك ان اتساع نطاق المقاطعة في اوروبا وامريكا بشكل كبير في الآونة الاخيرة من اكثر ما يقلق حكام تل ابيب هذه الايام.
كما ان غياب حركة فتح عن هذه الساحات يتيح المجال لتيارات سياسية اخرى ملء هذا الفراغ عبر لقاءات واجتماعات وندوات تطغى بذلك على الدور الريادي التاريخي لحركة فتح. ان التنسيق مع حركة المقاطعة العالمية يكمن في العمل المستمر مع جمعيات التضامن والنقابات والاتحادات العمالية والطلابية والاحزاب الحاكمة منها والمعارضة، وليس عبر لقاءات محدودة مع رئيس الدولة او تلك، فتمتين العلاقات على المستوى الرسمي هي مهمة السيد الرئيس ووزارة الخارجية، اما انعاش العلاقات شعبيا وحزبيا على قاعدة توسيع حركة المقاطعة هي الساحة المنطقية والتاريخية لحركة فتح.
فتح التي طالما اثبتت انها الحامي الحقيقي للمشروع الوطني عبر مبادراتها النضالية وقيادتها للعمل الوطني، هي احوج ان تفكر مليا في ان تستعيد هذا الدور وان تقود المواجهة هذه المرة عبر ساحة المقاطعة لإسرائيل.
وقد يكون الوقت قد حان لقواعد فتح وهي مقبلة على استحقاقات داخلية ان تفكر مليا في اعادة صياغة ادوات الفعل النضالي بشكل يستند على استعادة الريادة في العمل الشعبي وتبني التنسيق مع حركات التضامن العالمي في اطار حركة المقاطعة، وذلك بالتوازي مع التفكير بطرح البرنامج الاجتماعي والاقتصادي للنقاش الداخلي بين ابناء الحركة، ليصار الى الخروج ببرنامج حديث يمثل الوجه التنموي للحركة، وان لا تترك الحكومات المتعاقبة التي تعمل في ظل شبكة أمان فتحاوية، تقود الفعل الاقتصادي التنموي المحدود وفق ما يراه وزراءها وليس وفق ما تراه حركة فتح.