ها أنا ذا أمشي ليلاً وراء قلبي، عفوًا، وراء قدمي اللتين تحفظان كل متر تراب في مخيم جباليا، في ليلة عتمتها غامقة، وحرارتها لاهبة، لكأن أفران غاز أو مازوت أوقدت أمام كل بيت، وفي كل زقاق، وفي الشوارع العريضة، أو لكأن البحر صار تنينا يقذف اللهب من فمه نحو المخيم.

نعم، لم أستطع الخروج نهارًا لأسباب كثيرة منها أنني لا أريد أن أرى طائرات الكواد كابتر جهرة وهي تزن، وهي تدور في سماء المخيم مثل مجنونة وضعت ذلاذل ثوبها بين أسنانها وراحت تركض من دون أن تعطي انتباها أو اعتبارًا لأي أحد.

 ومن الأسباب أيضًا خوفي المطلق من أن أرى جثثًا لأهلي ومعارفي في المخيم ملقاة في الأزقة وأمام البيوت وفي الشوارع الأوسع قليلاً، فأواقفها لأعرف أصحابها ولأقرأ لهم الفاتحة، أن أراها وقد اقتربت الكلاب والقطط منها أكثر، وتجاسرت عليها  لكي تنهشها. ومن الأسباب أيضًا أن لا أرى البيوت وقد مشت نحو بيت لاهيا، والسودانية، والبحر، وبيت حانون، والمدارس في جنوب المخيم. مشت رغمًا عنها فتشظت سقوفها وخرت، ومالت حيطانها فهوت، ومن الأسباب أيضًا الحرارة التي ستجفف دمي إن مشيت، وأنا إن بدأت المشي في الصباح فلن أنتهي منه إلا في المساء، فأنا صاحب فضول، ولن أطوي مشيتي إلا عندما أطمئن على المخيم، أعرف أن آلافًا من أهل المخيم ما زالوا في المخيم، وأن بئرا واحدة من أصل 42 بئرًا يعرفها أهل المخيم، هي الوحيدة التي يشرب الناس منها الآن، وأعرف أن %60 من البيوت والمشافي دمرت، وأن كل المراكز، والمؤسسات، والمدارس، ودور العبادة، دمرت ليس مرة واحدة بل مرات. وأعرف أن المقابر الجديدة أيضا جرفتها الجرافات الإسرائيلية مثلما جرفت الشوارع، والأشجار، ومصاطب البيوت، وعتباتها، وأفران الخبز، ومراكز وكالة الغوث الدولية الموسومة باللون الأزرق. الآن لا لون أزرق في مخيم جباليا، حتى لون البحر البعيد قليلاً ما عاد أزرق، صار لونه أسود موحشا. أتمتم لنفسي: الثيران لا تميز بين لون ولون، ولكن شاع بأن اللون الأحمر يشجعها على التوحش ومهاجمة المصارعين المواجهين لها، اليوم. اللون الأزرق يشجع الإسرائيليين على التوحش ومهاجمة كل دار ومركز وحائط لونه أزرق. وأعرف أن أصوات أهالي المخيم في النهار لا تغيب، ولكنها أصوات تترجم الأسى والفقد والألم والجوع والبكاء الذي عم البيوت.

أول مرة في حياتي وعمري 72 سنة أحس وأعي أن البكاء يعم بيوت المخيم كلها، وأن أصوات أهالي المخيم في الليل لا تغيب أيضًا، إنهم يتدافعون ويسألون ويمشون من بيت إلى بيت، ويتلاقون في النهاية عند محزنة كبيرة، وأعرف أن دبابات وجرافات وسيارات ومقطورات المياه وشاحنات الطعام الإسرائيلية تحيط بالمخيم. منها ما يتجمع قرب شارع الرشيد، قرب البحر تمامًا، ومنها ما  يتجمع عند شارع صلاح الدين، وعند شارع السكة، مثل قطعان بنات آوى، ألوانها رمادية كابية لا رهجة لها وحركتها بطيئة أو مشلولة ولا أحد من الإسرائيليين يبدو منها.

اليوم، ما استطعت لجم  رغبتي في الخروج نهارًا، فخرجت قبل غروب الشمس كي أرى  الدبابات والآليات والجرافات وسيارات الشحن الكبيرة ومقطورات الماء وصهاريج المحروقات الاسرائيلية التي عطبتها قنابل المقاومة، محمد العابد بائع عرانيس الذرة الصفراء. قال لي ليلة أمس، وقد التقاني عند صيدلية ابن التلولي، قرب خزان الماء الذي خر على الأرض من علوته، تعال وانظر، وارشدني إلى آليات الجيش الإسرائيلي التي ارتمت هنا وهناك، قال لي:

- هذه العتمة لا تريك شيئًا أخرج في النهار كي ترى ما لم تحلم به، كي تراه، ولكن لا بأس ضع عينيك في كفيك وامسح بهما على أكوام الحديد للآليات الإسرائيلية المعطوبة، لا تخش الحرارة إنها محتملة، أخرج معي لأريك جبل الحديد الإسرائيلي الجديد الذي كان دبابات وجرافات وسيارات شحن وصهاريج محروقات قرب حارة الجعابرة.

أخ!  لكأنني تعثرت فكدت أهوي، هنا ما كان من شيء يعيق المرور أو يجعل الأقدام تتعثر، أتلبث قليلاً وأدور حول نفسي، عفوًا حول المكان، وأنا أهمهم، هنا مصطبة بيت التايه، وبقربها كان ربع برميل زيت مملوء بالتراب والزنابق. لكن أين هي المصطبة؟ وأين هو    ربع البرميل؟ وأين التراب والزنابق؟ هنا حفرة كبيرة واسعة، الحمد لله لم أقع فيها. ولكن أين هو بيت التايه؟ إنه غير موجود، لعل هذا الركام الذي أمسحه بكفي هو ما يدل عليه.

يا إلهي لكأنني تعبت ولعلي جلت في جوانب المخيم كلها، لكن أين هم الإسرائيليون؟ فأسمع من يجيبني: وهل يتجاسرون على البقاء هنا في المخيم أو في أطرافه؟ يا عم جبارة، يا ويلي.. لعل صوتي كان عاليًا، قلت: ومن أنت يا عمي!

 قال: أنا سرور الهاشم يا عم جبارة!

 قلت: وهل أنت خرجت لترى أيضًا؟

قال: كل أهل المخيم خرجوا لكي يروا،  ألا تسمع همهماتهم؟

قلت: أنا تعبت يا عم، ألا تعرف بيتي؟

قال: أعرفه، أنت جارنا، قلت أرجوك خذني معك، أريد العودة إلى البيت!