بقلم: نهى عودة

الأدب المُقاوم هو عُنصرٌ مِمَّا يُمكن تسميَّته منظومة "ثقافة المُقاومة" التي تتشكَّل من مختلف ألوان الأدب والفنون والثقافة الشعبية والتُّراث، ذلك أنَّ المقاومةَ شعبيَّةٌ بطبيعتها وأمَّا الأدبُ فهو نُخبَوِيٌّ بطبعه، ولا يُمكن أن تُحقَّق المُقاومةُ جدواها وفعالِيَّتَها ما لم يكن لها امتدادٌ جماهيريٌّ كبيرٌ وعميقٌ.

على عكس الأدب الثوري أو أدب الثورة الذي عرفته بلدانٌ كثيرةٌ، فإنَّ أدب المقاومة اختصَّت به فلسطين في عالمنا العربي، ويرجع إطلاق هذا المُصطلح إلى الكاتب الشهيد "غسَّان كنفاني"، وذلك من أجل تجديد الأمل العربي ورفعِ معنويات الأمَّة العربية بعد نكسة 1967، وقد رافَق هذا اللَّونَ الأدبيَّ أعمالٌ فنِّيةٌ في الغناء والمسرح والسينما والتلفزيون والفنون التَّشكيليَّة، وكان أدبًا مُقاوِمًا عربيًّا "تشارُكيًّا" ضِدَّ الكيان الصُّهيوني، ولقِيَ الدَّعمَ "الرَّسميَّ"، وجرى تحويل بعض أعماله إلى مجال المسرح والسينما والغناء.

انتعش أدبُ المقاومة في الستينيات والسبعينيات حتى أواخر الثمانيات، ولكن بعد عام 1988 وهو عام التَّحوُّلات الكبرى في السياسة العالمية وسقوط جدار "برلين" وانتهاء عصر القطبية الثنائية وسيادة الهيمنة الأمريكية الأوروبية الضَّامنة لوجود الكيان الصهيوني على العالم بعد عام 1988، حدثَت التَّحوُّلات الكبرى في بعض البلدان العربيَّة، فتراجعَت "القوميَّةُ العربيَّة"، وانكمشَت ثقافة المقاومة "التَّشاركية" بين العرب، وانكمشَ معها "الأدب المقاوِم" العربي ليصِير فلسطينيًّا إلى حدٍّ بعيد، وكان لوفاةِ رموز هذا الأدب لا سيما من الفلسطينيين، تأثيره البالغ على موضوعاته ومَضامنيه.

تكشَّف أنَّ أدب المقاومة، وثقافة مقاومة الكيان الصهيوني عُمومًا، خاضعٌ إلى السياسة وتحوُّلاتها في كل بلدٍ عربيٍّ، فأصبحَ مادَّةً للدراسات النَّقديَّة أكثر منه فاعلاً ثقافيًّا، حتى أنَّ معناه لم يتحدَّد حتى اليوم بشكل جليٍّ مثل أيَّ مصطلح في مجال الدِّراسات، ويُمكننا التَّفريق بين "الأديب المُقاوم" الذي اعتنقَ المُقاوَمة مَذهبًا في أعماله، وعقيدةً راسخةً في كتاباته، حيث تقوم رسالته على هذه العقيدة وذلك المذهب، وبين "أدب المقاومة" الذي يُمكن أن يكون مجموعة كتابات في أعمال الأديب، بمعنى أنَّ التَّصنيفَ تحت مُسمَّى "المقاومة" يتعلَّق بالعمل وليس بصاحبه.

استنادًا إلى ما سَبَق، فإنَّ أدب المقاومة وما يتبعه من أعمال فنيَّةٍ أخرى اختفى أو يكاد في بعض البلدان العربيَّة، وهو خَجولٌ أو مناسباتيٌّ في بلدان أخرى، وهذا ما جعلَ الأمر يبدو وكأنَّ "أدب المقاومَة" قد اختفى أو يكاد من خارطة الأدب العربي، والواقع أنَّه ما زال حيًّا وحيويًّا وفاعلاً في فلسطين، ومُرتبطًا بكل قلمٍ فلسطينيٍّ أينما كان في هذا العالم، فما دام هناك احتلالٌ صهيونيٌّ لفلسطين فإنَّ كلَّ ما يكتبه الفلسطيني هو أدبٌ مُقاوِمٌ بالضرورة، مهما كانت الموضوعات التي يكتبها، فهذا الكاتبُ هو إنسانٌ قبل كل شيءٍ، يُحبُّ ويعشق الحياة وله طموحاته وآماله، وليس إنسانًا يقتاتُ من ذاكرة الأحزان، ويعيش الأوجاعَ والخيبات والانكسارات فحسب.

ارتبطَ "الأدب المقاوم" في بداياته بمناهضة الاحتلال الصهيوني ومشاريعه ومُخطَّطاته لطمس الهويَّة الفلسطينيَّة وتزييف التاريخ والتراث والذاكرة ورواية الأرض الفلسطينيَّة ذاته.. وكانت موضوعات هذا الأدب تدور حول هذا المحور بشكل أساسي، غير أنَّه أوجد لنفسه فروعًا منها: أدب الأسرى، أدب المَنفى، أدب اللاَّجئين، أدب الحرب.. وقد تتوالدُ منه فروعٌ أخرى بعد الحرب "العالميَّة" المُعلنة على غزَّة وكل فلسطين.

ما يجب التَّنبيه إليه هو أنَّ الكيان الصُّهيوني فرَض الحصارَ الثقافي على فلسطين منذ احتلالها، وحاول جاهدًا منع أدبها وفنونها.. من الانتشار عربيًّا وعالميًّا. ويتجلَّى هذا الأمرُ بشكلٍ مُلفتٍ، الآن، في شبكات التَّواصل الاجتماعي، حيث فُرِضَت الرَّقابة حتى على كثيرٍ من المواد والعبارات والألفاظ التي تنتصر لفلسطين وغزَّة وتُجرِّم الكيان الصهيوني. ذلك الحصار الثقافي جعلَ الكثيرين يعتقدون بأنَّ الأدبَ المُقاوم قد خبا ولم يعد بالقوَّة التي كان عليها في فتراته "الذّهبيَّة". وفي هذا السِّياق، أدعو إلى طبعِِ ونشرِ الأعمال الأدبية للفلسطينيين، لا سيما أدب الأسرى، وترجمته إلى اللغات العالميَّة، وتحويله إلى أعمالٍ سَمعِيَّةٍ بصريَّةٍ.

إنَّ كلَّ الأدب الفلسطينيّ هو أدبٌ مُقاوِمٌ، ولكنه يعاني ما يُعانيه الأدبُ والثقافة في كثيرٍ من البلدان العربيَّة. وهو يحتاج إلى الدَّعم والمُساندة ليُؤدّي رسالتَه على الخارطة العربيَّة والإنسانيَّة.

ولعلَّ مأساة أدب المقاومة الفلسطيني تعود، بشكل كبيرٍ، إلى تراجع قيمة الأدب في حياة المُجتمعات العربيَّة عُمومًا، وافتقاد هذا الأدب إلى إمكانيات ترجمته ونشره في العالم، بالإضافة إلى الحصار المفروض عليه وعلى الثقافة عُمومًا في فلسطين. ورغم الجهود والمبادرات التي يقوم بها الفلسطينيون خارج فلسطين من أجل تأسيس مراكز لحفظ الذَّاكرة الشعبية بمُختلف موادِّها: كتابات، وثائق، صُور، فيديوهات، وتدوين روايات الأجيال التي شهِدت النَّكبة أو كانت قريبة من زمنها، رغم هذه الجُهود التي تندرج في المقاومة الثقافية فإنَّها تبقى مبادراتَ أفرادٍ أو مجموعات تفتقد إلى الإمكانيات والدَّعم المادي والوسائل اللاَّزمة لضمان نجاح مثل هذه المشاريع واستمرارها وفعاليَّتها عالميًّا.

عندما نتحدَّث عن قيمة الأدب، فيجب التَّذكير بأنَّه من أُولى أهداف أدب المقاومة كان مواجهة الأدب الصهيوني الذي كان يلقَى الدَّعمَ الدولي وتسنده صناعة الكتاب وصناعة السينما في أمريكا وأوروبا على الخُصوص. فقد تحدَّث رائد "أدب المقاومة" الأديب الفلسطيني الشهيد "غسان كنفاني" (1936- 1972)، في كتابه "الأدب الصهيوني"، بأنَّ الصهيونيَّة اعتمدَت على بعثِ وتشكيل اللغة "العبريَّة" لخلق العصبيَّة التي جمعَّت اليهود من مختلف بلدان العالم. ثم استثمرَت الأدبَ في تشكيل المشاعر الدَّاعمة لها والمُعادية للفلسطينيين والعرب عمومًا. وأوضح "كنفاني" بأنَّ "الأدب الصهيوني" له أسبقيَّةٌ الوُجود قَبل "الصهيونيَّة السياسية"، وقال: "ربَّما كانت تجربةُ الأدب الصهيوني هي التجربة الأولى من نوعها في التاريخ، حيث يُستخدَم الفنُّ في جميع أشكاله ومستوياته للقيام بأكبر وأوسع عملية تَضليلٍ وتزويرٍ تتأتَّى عنها نتائج في مُنتهى الخطورة".

اعتمَد "الأدب الصهيوني" على التزييف التَّاريخي والتَّضليل الثقافي ونسجَ الأساطير، وتُرجِم إلى لغاتٍ عالميَّةٍ كثيرة، ونشرته كُبريات دُور النَّشر الغربية، كلُّ ذلك في سياق "منظومة ثقافية" مُتكاملة من أجل ترسيخ ما يُسمَّى "دولة إسرائيل" في ذهنيَّة المُجتمعات الغربيَّة، وفي المقابل مَحو الدولة الفلسطينيَّة بتاريخها وثقافتها وشعبها وموروثها الحضاري.

لقد نجحَت الصهيونيَّةُ إلى حدٍّ كبيرٍ، في غسل أدمغة البشر لا سيما في العالم الغربي، بينما تراجعَت "القوميَّة العربيَّة"، فتراجع معها الأدبُ المقاوِم وثقافة المُقاومة، ويكاد أن ينحصر في دوائر النُّخب الفلسطينيّة فحسب.

من المُجدي أن نُذكِّر بالتجربة الرائدة لأدب المقاومة التي أبدعها الشهيد الأكاديمي والكاتب "رفعت العرعير" (23 سبتمبر 1979 -  ديسمبر 2023)، عندما أطلق مشروع "لسنا أرقامًا"، وفتَح الأبوابَ أمام المُبدعين الناشئين الفلسطينيين في غزَّة لمخاطبة العالم من خلال كتاباتهم باللغة الإنجليزية، وهذا ما يجبُ أن يكون مع الفروع الأخرى لأدب المقاومة والثقافة الفلسطينيَّة، عليها أن تتوجَّه إلى العالم وتنتشر فيه بلغاته.

إنَّ الحرب العالمِيَّة على غزَّة وكل فلسطين ستكون مُنطلَقًا لأدب مقاومة جديدٍ، نتمنَّى أن تكون له روافده في الفنون التَّشكيلية والمسرحِيَّة والتلفزيونية والسينمائيَّة، ويتوجَّه إلى العالم أجمعٍ. ومن المُهمِّ أن يكون مَدعومًا عربيًّا، ويعتنقه الأدباء والمُبدعون العرب، ومن المُهمِّ ألاَّ تتوقَّف المبادراتُ التي انطلقَت بطباعة ونشرِ الكُتب المشتركة بين الشعراء العرب دعمًا لغزَّة وتعريةً للنِّفاق الغربي، وتؤسِّس لأدب مقاومة عربيٍّ جديدٍ بأنفاس لا تتوقَّف بعد انتصار المُقاومة الفلسطينيَّة على الكيان الصهيوني في هذه الحرب الشيطانيَّة التي ستُحدِّد الانتماء الحقيقي لكل إنسانٍ عربيٍّ: مع فلسطين أو ضدَّها؟