لم تكن علاقتي بوالدي الشهيد اللواء قدري أبو بكر يومًا من الأيام علاقة ابن بأبيه فحسب، بل كان لي أخًا وحبيبًا وصديقًا.. كان لي قائدًا ومعلمًا وقدوة.. وكثيرون ما كانوا يستغربون طبيعة علاقتنا.. فمنهم من وصفها بالعلاقة "الوثنية"، ومنهم من شخصها بـ "التعلق المرضي"!.
نعم أنا مجنون قدري .. كنت أعيش وأتابع كافة تفاصيله، وكانت حياتي كلها مكرسة لخدمته وإسعاده.. درست وتعلمت من أجله.. عملت وخدمت وكافحت من أجله.. تزوجت وأنجبت "أريج" و "قدري" من أجل إسعاده .. وكانت إيماءة رضا منه تعني لي الدنيا وما فيها.. هو حبي الأبدي والسرمدي والأزلي بلا منازع..
بعد الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية والقدس الشرقية في العام 1967، كان قدري أبو بكر متشوقًا جدًا للالتحاق بالفدائيين مع أن عمره لم يتجاوز الخامسة عشرة، فخرج بداية عام 1968 إلى الأردن للالتحاق بالثورة والفدائيين، حيث سجل اسمه للذهاب إلى أول دورة عسكرية لحركة فتح في العاصمة العراقية بغداد، وبعد أن حدد يوم السفر وتجمع الفدائيون في ساحة كبيرة للمغادرة في باصات مخصصة لنقلهم إلى بغداد، وبعد أن قرأوا اسم قدري أبو بكر .. وما أن هم للصعود، اوقفه المسؤول وقال له: "أنت تعال غدًا لتصعد مع المجموعة الثانية"، حيث أدرك قدري حينها أنه كان يريد استثناءه لصغر سنه، فقال: "أريد أن أصعد الآن".. فقال المسؤول: "ليس لك مكان"، وكان قدري يمسك بيده اليسرى بالمأسورة المثبتة عموديًا عند باب الباص.. وما أن أزال المسؤول يده عنها، أمسك قدري باليد اليمنى .. وقال له: "إن لم يكن لي متسع بالباص فبإمكاني أن أبقى على السلم الخلفي للباص" .. وأمام هذا العناد والإصرار، قال المسؤول أخيرا وبعصبية: "اصعد".
كان الصعود إلى هذا الباص أول انتصار لقدري أبو بكر، وما بين انتصاره الأول، وانتصاره الأخير لرفاق القيد والمسيرة في الأول من تموز 2023، برسم البسمة على وجوه أطفالهم وأحفادهم. خمسة وخمسون عامًا من الملاحم والبطولات والانتصارات في الكفاح المسلح والقطاع الغربي وهناك خلف أسوار السجون والمعتقلات، وحيث نفي في العراق، وبعد عودته إلى أرض الوطن.
لم يكن اسمه الحركي "بكر مصطفى الفارس" مصادفة، فقد كان فارسًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. قائدًا وملهمًا ونموذجًا في الإخلاص والعطاء والتضحية والفداء في كل محطات حياته النضالية.. وقد أطلق عليه رفاق دربه العديد من الألقاب .. "المسيح".. "القديس" .. "الفدائي النقي" .. "ضمير الحركة الوطنية".. "القاسم المشترك".
عذرًا لكل الأيقونات.. فقدري أبو بكر هو أيقونتي للحب والإنسانية.. للنضال والتضحية.. للفداء والبطولة.. للصبر والصمود.. للوحدة الوطنية والمسلكية الثورية.. هو أيقونتي لمعنى أن تكون فلسطينيًا.
في ظهيرة يوم السبت الموافق الأول من تموز 2023، رابع أيام عيد الأضحى المبارك، وفي تمام الساعة الواحدة وست وثلاثين دقيقة كان اتصاله الأخير بي، حيث أعلمني بخروجه من حفل لمعايدة أبناء وأحفاد الأسرى (وعددهم نحو أربعمئة طفل وطفلة) في مقر المقاطعة برام الله، وأذكر كم كان من صوته يبدو سعيدًا وفرحًا بهذا الحفل، وسألني بعدها عن مكان وجودي للذهاب سويا لمعايدة خالتي الأسيرة المحررة شذى عودة في بيتها الكائن في رام الله، وعندما أخبرته بأنني أعمل على أطروحة الدكتوراة.. قال: "خليك اشتغل على الدكتوراة أهم.. أنا عندي مشوار صغير، وبنلتقي المسا"..
وذهب أبي ولم يعد.. رحل عن عالمنا للأبد.. وكانت آخر وصاياه أن نستكمل مسيرتنا التعليمية.. تاركًا خلفه وجعًا وألمًا عميقًا وسرمديًا لا يمكن ان تتسع حروف اللغة لوصفه.
وهكذا بات الأول من تموز الأسود.. هو ذكرى رحيل والدي، وذكرى توقف الحياة عن النبض في قلوبنا التي ما زالت على قيدها.. فأي حياة هذه بدونك يا أبا فادي؟!..
في جنازة مهيبة ومراسم عسكرية تليق بمقام شهيد الواجب الوطني وشرف العسكري المقاتل والفدائي الفلسطيني الثائر، ودعت فلسطين شهيدها اللواء قدري أبو بكر، ليسجى جثمانه الطاهر في جوف أرض بديًا التي استبد حبها به، موصيًا إيانا بمواصلة الطريق نحو القدس، وبأن لا ننسى أسرانا الذين نرسل إليهم التحايا، شاكرين لهم وفاءهم الطبيعي للأسير المحرر قدري أبو بكر.
آآآه يا رفيق العمر.. عشقت فلسطين وشعبها، فكانت الوفية لك.. وبكتك فلسطين بشبابها ونسائها.. بأطفالها وشيوخها.. ونعتك كافة القوى والفصائل الوطنية والإسلامية.. وأعلنت الحركة الأسيرة الحداد وفتح بيوت عزاء على روحك الطاهرة، وفتحت بيوت عزاء في شقي الوطن (الضفة الغربية وقطاع غزة) وفي الأردن والمدينة المنورة والولايات المتحدة الأميركية، وتلقينا برقيات تعزية من مختلف أنحاء العالم من سفارات وجاليات ومؤسسات، ...إلخ.
لقد كانت الجنازة وبيوت العزاء لوحة وطنية وحدوية بامتياز.. كانت صرخة للوحدة الوطنية على أمل أن تحاكي هذه اللوحة واقعنا الفلسطيني، فهذا هو الوفاء الحقيقي لقدري أبوبكر.
بمناسبة ذكرى ميلاده السبعين التي حلت في العاشر من كانون ثاني 2023 الماضي، كنا نتباحث أنا وست الحبايب "أم فادي" قبل شهرين من هذا اليوم تقريبًا، حول ضرورة أن نقيم حفلة مفاجئة ومميزة تكريما لوالدي بهذه المناسبة.
وبالفعل بدأنا أنا وأمي وإخوتي دانا وفرات وزوجتي "أم قدري" بالتحضيرات على قدم وساق، من حيث التنسيق مع رفاق دربه المتواجدين في مختلف محافظات الوطن والشتات، وكانت عملية مضنية، خاصة من ناحية الوصول إلى بعضهم المتواجد في المهجر والشتات.. وطلب فيديوهات قصيرة من كل واحد منهم يرسل فيها الرسالة التي يريد بهذه المناسبة. وقد تم تجميع صور من مختلف محطات حياته النضالية، وعمل فيلم متواضع بجهود شخصية، هذا فضلاً عن تزيين القاعة (قاعة آرام)، وهي القاعة نفسها التي أقيم فيها بيت العزاء.. وحولناها إلى لوحة وطنية بامتياز، حيث تم تزيينها بالاعلام، والبالونات التي تحمل ألوان العلم الفلسطيني، وارتدينا زيًا موحدًا يتزين باسم والدي الحبيب.. وقد تم دعوة المقربين من العائلة والاصدقاء/ حوالي 50 شخصًا.
ولأنني أعرف مدى اهتمامه ومتابعته الدائمة لقناة "روسيا اليوم الفضائية"، أخبرته بأن القناة قد تواصلت معي وطلبت مني التنسيق لإجراء مقابلة حصرية معه في بديا، وأخبرته بأن القاعة (قاعة آرام) هي المكان الأنسب لإجراء المقابلة، بفعل المساحة التي ستمكن طاقم العمل من إعداد الموقع وتجهيز المعدات وإلخ.. وبالفعل نجحت الخطة ودخل القاعة كما خططنا ليتفاجأ بتصفيق الحضور، وعلى وقع الأغاني الوطنية الثورية، وأدخلناه القاعة كما يدخل العرسان إلى قاعة الأفراح ..
لم يكن حفل عيد ميلاد اعتياديًا.. بل كان حفلاً وطنيًا، لا بل كان حفلاً تأبينيًا في حياته.. فقد بدأت الحفل الذي كنت عريفه، لأوجه كلمة له من القلب، عاهدته فيها بأن أكون له كما سماني "الفادي" الذي يفتديه بروحه ودمه.. ولكن بكل وجع وحسرة وألم أقولها: إن القدر لم يكرمني بأن أكون الفادي له.. ولكن لا اعتراض .. قدر الله وما شاء فعل بأن يختاره إلى جواره، عسى أن تكون حياتي من بعد الأول من تموز مكرسة حتى آخر يوم فيها لأفتدي ذكراه بكل ما أوتيت من قوة وصبر وعزيمة، وأن أستمر على نهجه الوطني والإنساني المنقطع النظير.
ومن بعد أن أنهيت كلمتي، قدمت خالي الحبيب محمود عودة "أبو مصطفى" القادم حينها من الأردن وبشكل مفاجئ، ليشارك والدي هذا اليوم، وليتلو قصيدة شعرية من تأليفه، تكريمًا ومعايدة له، ومن بعدها أصررت على أن يلقي والدي كلمة يشاركنا فيها خلاصات هذه المسيرة النضالية الطويلة .. هذه الأعوام السبعين التي قدم فيها أبو فادي نموذجًا ملهمًا في العطاء والفداء والتضحية والشجاعة والإقدام والمحبة..
ألقى والدي كلمة لا يمكن أن أنساها.. كلمة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها محاضرة وطنية بامتياز.. محاضرة في المسلكية الثورية، وتعريف بماهية الصلابة والصمود والبطولة والتضحية والفداء..
تحدث من القلب وبحرقة عن ذكرى نضالية جمعته بوالده الشهيد عمر أبو بكر.. وتحدث بوجع وألم عن واقع الأسرى داخل المعتقلات الصهيونية، الذين يحرقون أجمل سنوات عمرهم داخل السجون، وعن أبطال فلسطين كريم يونس وماهر يونس بشكل خاص.
كانت كلمته رسالة وطنية بامتياز.. رسالة الوحدة والمحبة.. رسالة الوفاء إلى الشهداء والأسرى.. رسالة الأمل والحرية ....
لم نكن نعلم أننا نؤبنك في حياتك.. فعذرًا لأنني لم أف بعهدي.. عذرا لأنني لم أكن لك "الفادي" في الأول من تموز الأسود.. وعزاؤنا أن الأبطال أمثالك لا يختارون أقدارهم.. الأقدار هي التي تختارهم.. فعهدًا يا أبا فادي.. أن نستمر على الدرب وأن نحافظ على الوصية، وأن أفدي ذكراك الخالدة بالعمل والعطاء والنضال حتى يوم اللقاء بإذن الله .
لا يسعني في هذا المقام، إلا أن أستحضر إحدى مقولات والدي الخالدة في روحي ووجداني ".. حاولوا اقتلاعنا ولكننا أبينا إلا ان ننزرع فيها حتى ولو مع القيد.. ونقاوم وسنظل نقاوم"..
فطوبى لروحك الطاهرة يا أبي وأخي.. يا حبيبي وصديقي.. يا قائدي ومعلمي وقدوتي.. يا من شرفتني بحمل اسمك العظيم.. "قدري ".. نعم هو قدري الذي أكرمني الله به.. عهدًا أن نبقى حافظين ومحافظين على القيم والمبادئ التي رسختها وزرعتها فينا.. كنت وستبقى أيقونتي للعطاء والتضحية والفداء..
طوبى لروحك العظيمة .. يا صاحب القلب الكبير الذي اتسع لخارطة فلسطين.. لأشجار الزيتون والتين .. طوبى لبندقية النضال وجغرافية الطرق التي نسجت بخطواتك عليها حكاية الفدائي العظيم.
قال تعالى: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضىٰ نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ..." صدق الله العظيم.
من المهد الى اللحد.. لم تبدل تبديلا .. فطوبى لروحك الطاهرة الخالدة فينا ما حيينا.. عسى ان يتقبلك الله في عليين مع الشهداء والأنبياء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.
عهدًا يا سيادة الشهيد اللواء أن نواصل المسيرة كما أوصيتنا.. "نقاوم وسنظل نقاوم "...
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها