رحلت سلمى الخضراء الجيوسي بعد رحلة عطاء غنية في ميادين الادب والشعر والمسرح والنقد والترجمة والعمل الموسوعي والاكاديمي، 95 عامًا قضتها ابنة صفد الأبية لانتاج وإغناء المعرفة والثقافة والهوية الوطنية والقومية والإنسانية، وجبلت من وعاءها المعرفي الكبير، وتجربتها المتنوعة والغنية في حقول الابداع والتلاقح بين الثقافات والحضارات العربية الإسلامية والغربية بمدارسها المختلفة، ونجحت بامتياز من خلال ابداعها في حقل الترجمة في بناء جسر من التواصل بين الحضارتين والثقافتين، وردت عمليًا وبشكل منهجي على أعداء المثقافة والتكامل بين الحضارات، وأكدت أن البشرية قامت وارتكزت نهضتها على عظمة الغنى المعرفي، وتبادل حصاد اسهامات وتجارب الشعوب في حقول الإنتاج والابداع والقيم الإنسانية الهاجسة بإعلاء مكانة وقيمة الإنسان، وتجذير لغة التسامح والتعايش بعيدًا عن التعصب والعنصرية وأشكال الاستعمار القديمة والجديدة، وقرعت أجراس السلام في أرجاء المعمورة، لا سيما وانها جالت في حياتها من فلسطين إلى الأردن ولبنان إلى لندن إلى أميركا والجزائر والسودان وغيرها من الدول. 

ولدت سلمى لأسرة ميسورة لأب فلسطيني وأم لبنانية عام 1928 في مدينة صفد، وتعلمت وترعرعت في عكا، وأكملت بعد النكبة عام 1948 في كلية شميدت الالمانية في القدس، ثم تابعت سفر العلم والتحصيل الاكاديمي في الجامعة الأميركية في بيروت ودرست الأدبين العربي والإنجليزي، ومارست مهنة التعليم في كلية دار المعلمات في القددس. ولاحقًا تزوجت من ديبلوماسي أردني، ودرسّت في العديد من الجامعات العربية والأميركية: في الخرطوم والجزائر – قسنطينة، والولايات المتحدة في جامعة بوتا، ثم جامعة مشيغان، وواشنطن وتكساس. 

ومن إنجازاتها المميزة إنشاءها عام 1980 مشروع "بروتا" للترجمة، ونقل الثقافة العربية للعالم الغربي، والعكس صحيح، حيث نقلت العديد من المعارف الغربية إلى العالم العربي، فضلاً عن الإنتاج الموسوعي والانطولوجي حول الأدب العربي المنشورة باللغة الإنجليزية، وترجمة بعضها للغة العربية. ومن ترجماتها "إنجازات الشعر الأميركي في نصف قرن" للويز بوغان 1960، و"إنسانية الإنسان" لرالف بارتون باري 1961، و"جوستين" و"بالتازار" وهما الحزءان الأولان من "رباعية الإسكندرية" للورنس داريل 1962.  

بالإضافة إلى ترجماتها وأعمالها الموسوعية والأنطولوجية حول الشعر والثقافية العربيين، أصدرت كتابها إلهام عن "الشعر العربي الحديث" عام 1987، و"أدب الجزيرة العربية" 1988، و"الأدب الفلسطيني الحديث" 1992، و"المسرح العربي الحديث" 1995، و"مسرحيات عربية قصيرة" 2003، و"الرواية العربية الحديثة" 2004، وأعمال أدبية وترجمات أخرى عديدة. 

وكان من بواكير إنتاجها ديوانها الشعري الأول عام 1960 بعنوان "العودة من النبع الحالم"، وبعد ذلك نشرت قصائد متفرقة جمعت في ديوانها الثاني عام 2021 عن الدار الأهلية في عمان. وكانت انخرطت من موقع الندية في الحوار المحتدم بين مجموعة بين رموز الحركة الشعرية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي منهم: أدونيس والماغوط وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وجبرا إبراهيم جبرا، وأدلت برؤيتها الخاصة حول تطور الحركة الشعرية والانتقال من التفعيلة والأوزان إلى النثر، حيث قاربت بين النموذجين، وفتحت الباب واسعًا أمام مختلف أجناس الشعر إرتباطًا بميول وقدرات كل شاعر. 

سلمى الخضراء الجيوسي كانت مسكونة بالعديد من الملفات الأساسية، منها: أولاً الدفاع عن المرأة ودورها الريادي في المجتمع والكفاح الوطني والقومي؛ ثانيًا النكبة الفلسطينية التي اكتوت بها مع أسرتها اسوة بأبناء الشعب العربي الفلسطيني الذين طردوا من ديارهم عام 1948؛ ثالثًا إيلاء الأهمية الكبرى للمعرفة والثقافة والإنتاج الإبداعي في الحقول والمساقات الأدبية المختلفة، وتعميم ونشر المعرفة، مما اضفى على حضورها ودورها ومكانتها رمزية جندرية ووطنية وإنسانية عالية، وشكلت علامة فارقة في اسهاماتها المتعددة والهامة، وكانت قولاً وفعلاً إمرأة بقامة وطن وأمة، لانها أيضًا عملت في حقول الإعلام والكتابة الصحفية والإذاعية. 

وتقديرًا من المؤسسات الفلسطينية والعربية لدور المبدعة سلمى الخضراء الجيوسي تم تكريمها بالعديد من الجوائز، منها: منحت وسام القدس للثقافة والفنون عام 1990 من دائرة الثقافة والإعلام الفلسطينية، وحصلت على جائزة شخصية العام الثقافية للدورة ال14 من "جائزة الشيخ زايد للكتاب" عام 2020، وجائزة "الإنجاز الثقافي والعلمي" من مؤسسة سلطان بن علي العويس عام 2007، وجائزة "سلطان العويس" عام 2006، وحصلت قبل شهرين على جائزة مؤسسة محمود درويش للابداع 2023، ومنحت وسام القدس للانجاز الأدبي عام 1990، ووسام اتحاد المرأة الفلسطينية الأميركية للخدمة. رحم الله شاعرتنا واديبتنا وناقدتنا ومترجمتنا وموسوعيتنا سلمى ولروحها الف سلام.