أذكر وأنا في سن الصبا كانت أمي تكلفني ببعض المتابعات مع جارة لنا كانت تطرز لها اثوابها، وكانت مهماتي تقتصر على إرسال ما قد ينقص من خيوط، او احضار الثوب عندما يصبح جاهزًا. وما زلت من خلال هذه التجارب الصغيرة أذكر ألوان الخيوط وأنواعها، وكنت أحيانًا أراقب الجارة وهي تطرز، وكنت ألاحظ كيف تقوم بعملها بتركيز كبير وتحول الخيوط الملونة إلى ورود وأغصان وزخارف متناسقة كأنك تنظر إلى سجادة فارسية لونها نساجو تبريز أو كشان أو أصفهان بخيوط من الحرير الملون بألوان أزهار الطبيعة.
وبالمناسبة الخبير بالسجاد الفارسي كالخبير بالتطريز، كلاهما يمكن بنظرة سريعة أن يحدد مدينة أو منطقة التصنيع ببساطة وأن يقول لماذا تستخدم هذه الألوان في منطقة دون غيرها، وكما يمتاز السجاد الفارسي بالدقة والاتقان،  فإن نساء فلسطين معروفات باتقانهن التطريز على أثوابهن او في زخرفة وتزيين بيوتهم بالمطرزات. هذا الاتقان المتوارث عمره آلاف الستين ويزدهر ويتطور، وفي فلسطين كان التراث بكل أشكاله وخاصة التطريز سلاح الشعب الفلسطيني الأمضى في الرد على مخططات  الإلغاء وطمس الهوية الوطنية بعد نكبة عام 1948، وهو كذاك في مواجهة سرقة أرضه وتاريخه ومسح ذاكرته الجماعية.
وخلال هذه المواجهة كان ومازال دور المرأة الفلسطينية محوريًا في الحفاظ على هذا التراث، فقد نقلت النساء، جيلاً بعد جيل فنون التطريز الفلسطيني سواء في الشتات، وخاصة في مخيمات اللجوء في أرض الوطن المحتل. وكان هناك حرص لدى النساء أن ينقلن التطريز كما كان في المنطقة التي شردوا منها فبقي موزيك اللوحة التراثية الفلسطينية كاملاً. وعندما تنظر إلى هذه اللوحة بتمعن ترى ثوب النساء الفلسطينيات البدويات من بئر السبع والنقب وثوب نساء غزة وتسير شمالاً إلى ثوب نساء عسقلان ونحو الشمال الشرقي نساء منطقة الخليل.
ولعل أجمل الأثواب هو ثوب نساء يافا وبيت دجن وشرقًا ثوب القدس ومحيطها جنوبًا وشمالاً وغربًا وشرق في بيت لحم ورام الله والبيرة. وتبدأ لوحة الموزيك بأشكال أخرى في نابلس وطولكرم وقلقيلية والقيصرية وحيفا والناصرة وجنين وبيسان وطبريا وصفد وعكا، وخلال ذلك هناك تفاصيل لا حصر لها من الف قرية فلسطينية، فلكل ثوب خصوصيته التي تميزه ولكن كل واحد منها هو الثوب الفلسطيني.
وإذا أمعنت النظر ستلاحظ أن الأثواب تعكس بطريقة رائعة طبيعة المناطق المشار اليها، بمعنى علاقة الثوب وصانعات الثوب من النساء بالمكان وهكذا جاء لوحة موزيك التطريز لترسم تلقائيًا خريطة فلسطين من أم الرشاش على البحر الأحمر جنوبا إلى رأس الناقورة على شاطئ البحر الأبيض عند الحدود مع لبنان، ولكل جزء ولكل منطقة جمالياتها.
وفي قراءة للتاريخ يمكن الإشارة إلى مراحل التطور، وخاصة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين عندما دخلت الى فلسطين الخيوط والاقمشة المصنوعة في الدول الأوروبية، وعندما أتاح تطور المواصلات ووسائل النقل الفرصة أن ترى النساء الفلسطينيات على أشغال بعضهن البعض في كل المناطق وبدأ تطوير قطب التطريز ومزج الأنواع والأثواب في كل المناطق بأثواب هجينة فيها شيء من بئر السبع أو غزة أو بيت دجن والقدس وغيرها من المناطق.
وفي سياق الحفاظ على التراث على هذا التطريز الفلسطيني، يمكن أن تمتلك كل امرأة فلسطينية ثوبين، الأول من المنطقة التي شرد أهلها منها، من يافا من حيفا أو عكا وصفد أو من الخليل ونابلس، والثاتي من منطقة القدس. والأهم أن تنظم حملة شاملة لتعليم الجيل الجديد فنون التطريز واتقانه، وان تتعلم الفتيات وحتى الشباب الذكور قطب ثوب المنطقة التي هم منها في فلسطين، وان تنظم مسابقات سنوية لاجمل عشرة اثواب.
وإلى جانب الخطر الذي تمثله إسرئيل والصهيونية سارقة الأرض والتاريخ والتراث، فإن لدينا مشكلة أخرى هي في ما فرضه الإسلام السياسي من لباس على النساء الفلسطينيات وجعلهن يبتعدن عن الثوب الفلسطيني خاصة في القرى الفلسطينية. وحجة جماعات الإسلام السياسي هي الحفاظ على الهوية الإسلامية، ولكن في الحالة الفلسطينية فإن المهدد هنا اكثر هو الهوية الوطنية، أو ليس الثوب الفلسطيني لباسًا محتشمًا؟ من هنا نحن بحاجة إلى حملة منظمة في القرية والمدينة لتعود النساء الفلسطينيات لارتداء الثوب الفلسطيني، ويمكن في هذا السياق تقديم مساعدة مالية من السلطة أو من خلال مبادرات يقوم بها القطاع الخاص لتشجيع عودة النساء الفلسطينيات لارتداء الثوب الفلسطيني بدل هذه الخلطة الغريبة التي سيطر فيها الإسلام السياسي على نسائنا إلى درجة معها أصبنا بصدمة كبيرة عندما شاهدنا قبل أيام كيف سرقت إسرائيل هذا الثوب واستخدمته في مناسبة سياحية ودعائية من الطراز الأول أثناء احتفالية اختيار ملكة جمال الكون.
وما خفف من الصدمة هو  صدور قرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونيسكو" بوضعها التطريز الفلسطيني على قائمة التراث العالمي، وهو القرار الذي جاء ثمرة لجهود فلسطينية رسمية استمرت لأكثر من عامين. من هنا فإن مسؤولية الحفاظ على التراث الوطني وحمايته هي مسؤولية جماعية للشعب الفلسطيني، كما أن جزءًا من حماية التراث هو في كيفية تسويقه في العالم ونشره كتراث وطني فلسطيني بهدف قطع الطريق امام لصوص التاريخ والأرض.
وإلى جانب فكرة امتلاك كل امرأة فلسطينية في الوطن المحتل او الشتات لثوبين، واحد من المنطقة أو المدينة أو القرية التي هي منها، وآخر من مدينة القدس ومحيطها، إلى جانب ذلك والإضافة الى فكرة المسابقة لاجمل عشرة اثواب،  يمكن أن يحدد يوم 8 آذار/ مارس، وهو يوم المرأة العالمي، أن ترتدي كل النساء الفلسطينيات في كل مكان الثوب الفلسطيني.
هذه الأفكار يمكن تعميمها على مختلف أشكال التراث والفنون الشعبية الفلسطينية فهذا نمط مهم في سياق المقاومة السلمية للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال ومن أجل كشف زيف الرواية الصهيونية، التي ادعت أن فلسطين بلا شعب.
لنعمل معًا من أحل إعادة الثوب الفلسطيني كلباس نساء بلداتنا وقرانا في الخليل والمثلث والنقب في غزة والضفة  والقدس... ليكون الثوب الفلسطيني لباس نسائنا في المناسبات والاحتفالات
كانت أمي تكتفي بتفصيل ثوب كل عامين أو ثلاثة، والجديد يصبح  تلقائياً هو ثوب المناسبات ولكن كل ثوب من أثوابها كان له دور ووقت استخدام وكل واحد منها كان بمثابة لوحة فنية، كسجادة فارسية تزداد بهاء مع مرور الزمن.

المصدر: الحياة الجديدة