تقرير: جويد التميمي

على الأرض الشاسعة والقاحلة والعطشى معظم أيام السنة، هناك جنوب الخليل، تقع قرية التواني المتواضعة و"البدائية"، حيث تسجل بضع عشرات من العائلات فقط منذ سنوات عديدة، فصولا خاصة في عملية المواجهة مع البرنامج الاستيطاني الإسرائيلي، وتواجه بجسارة قسوة المحاولات التي تستهدف إجبارهم على الرحيل من الأمكنة التي ولدوا وترعرعوا فيها.

على آخر الأحداث هناك (أول أمس) فتح جنود الاحتلال المدججون بالسلاح، النار صوب الشاب هارون رسمي أبو عرام (24 عامًا)، بينما كان يحاول تخليص مولد كهربائي حاول الجنود الاستيلاء عليه لمنعه من انارة مسكنه.

الرصاصة "الغادرة" التي اصابت عنق أبو عرام، أحدثت، كما يقول مدير عام المستشفى الأهلي في الخليل الدكتور يوسف التكروري "تهتكا في عموده الفقري، وأدت الى قطع في النخاع الشوكي، وتسببت له بشلل رباعي".

تقول شامية ابو عرام، إن ولدها البكر، هارون "يرقد الآن في المستشفى في حالة صحية حرجة، وإنها تبتهل الى الله، على مدار الوقت، بأن ينجيه من الموت".

وفي حالة أقرب الى "الهذيان" تضرب الأم شامية كفا بكف "سيعود هارون.. سيعود البطل، لقد خطبت له وسأزوجه وافرح فيه أنا ووالده واخوانه الستة وسيزفه اهالي التواني"، بينما يؤكد الأب المكلوم رسمي أبو عرام (51 عامًا)، أن قوات الاحتلال أطلقت الرصاص صوب ابنه بقصد قتله، وأن تلك القوات تتبادل الأدوار مع المستوطنين لبث الرعب وإشاعة الخوف في ارجاء مسافر يطا وقرى وخرب جنوب الخليل.

"ما يحدث هناك لا يخطر على بال أحد.. ممارسات لربما لم ولن ترى مثلها في العالم" قال.

هناك في التواني، وفي القرى والخرب النائية المجاورة جنوب وشرق بلدة يطا، يخلع الاحتلال هذه الأيام كل الأقنعة، ويتبدى عاريا وبشعا: إطلاق رصاص، قتل، تشريد، هدم بيوت وكهوف وعرائش، وترك مئات العائلات في العراء!

وثمة مفارقات وقصص موجعة تحتفظ بها خزانة الذاكرة الجماعية، في مسافر يطا جنوب الخليل، عن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.. حكايات تتحدث عن عمليات الاقتلاع والتهجير، وعن الأراضي الزراعية والمراعي التي تحولت إلى معسكرات ومناطق تدريب، وعن البيوت المسقوفة بالصفيح والكهوف والمُغر وآبار المياه التي هدمت، إضافة إلى وقائع أخرى تكشف عن فداحة المحنة التي منيت بها "المسافر" منذ احتلالها عام 1967، وما بعد ذلك مع أول وجود استيطاني فيها.

وفي التواني التي لا يتجاوز عدد سكانها بضع مئات من المزارعين والرعاة ومربي الماشية (نحو 400 نسمة)، وهي واحدة من عديد قرى وخرب مسافر يطا التي تفتقر للمرافق الصحية والتعليمية بخلاف مركز صحي متواضع ومدرسة ابتدائية يتيمة مهددة بالهدم، يمكن ان ترى بأم العين حياة مختلفة لآدميين من لحم ودم، آدميين اعتادوا الالتصاق بالطبيعة إلى درجة التماهي، خوفا من الاقتلاع.

للصمود هناك، معنى مختلف تستشرفه في التجربة اليومية للناس البسطاء الذين يسجلون يوميا أعمالا بطولية دون ضجيج أو انتظار لإطراء من أحد.

وفي حكاية مسافر يطا، قصة جوار باهظ الثمن، مع مستوطني المستوطنات المجاورة (كرمئيل، وماعون، وهافات ماعون، وماجن دفيد، وهافات يئير، ومتسادوت يهودا، ونوف نيشر، وفيقال)، وغيرها من البؤر التي هي قيد الإنشاء، حيث استولوا بقوة السلاح على آلاف الدونمات التابعة لسكّان 19 قرية وخربة.

وتشمل التهديدات الاسرائيلية والمطامع الاستيطانية تنفيذ عمليات ترحيل جماعية في هذه الخرب والقرى التي تبلغ مساحة أراضيها نحو (38500 دونم)، وهي: جنبه، والتبان، والفخيت، والمجاز، وحلاوة، وصفي الفوقا، وصفي التحتا، ومغاير العبيد، والركيز، والمفقرة، وصارورة، وخلة الضبع، وشعب البطم، وقواويص، وبئر العد، وطوبا، وسدة الثعلة، وسوسيا، والتواني، وهي تجمعات وخرب يقيم فيها أكثر من 3 آلاف مواطن، وتقع في التلال المطلة على النقب الشمالي.

وفيما يعتبر الأهالي أن الضغوط الاسرائيلية التي تجري ممارستها بأشكال مختلفة ضدهم انما تستهدف التمهيد لتنفيذ عملية "تطهير عرقي" لهم، بغرض توسيع مستوطنات قائمة في المنطقة وانشاء مستوطنات أخرى، يقول رئيس مجلس قروي التواني، محمد ربعي، إن الاحتلال حرم الأهالي من الكهرباء ودمر العديد من الخلايا الشمسية، وصعد من عمليات الهدم والتجريف، ومنع تنفيذ اي بنية تحتية ممكنه، وهي إجراءات وممارسات تندرج في سياق عملية الطرد والتهجير للسكان.

ويؤكد منسق اللجان الشعبية والوطنية لمقاومة الجدار والاستيطان جنوب الضفة راتب الجبور، أن عمليات القتل والهدم والشريد المنظمة التي يتناوب عليها جنود الاحتلال والمستوطنين في مسافر يطا، لن تحقق هدفها في كسر إرادة المواطنين وسكان المناطق هناك، كما لم تحقق هدفها بتفريغ المنطقة من كل أثر للوجود الفلسطيني الذي يرفع رايته فلاحون بسطاء عنيدون إلى درجة الموت، فهم في هذه القرى البعيدة والنائية أقصى جنوب الضفة الغربية، حراس الأرض المقدسة!!