بالتأكيد أن هناك علاقة جدلية بين حالة النهوض الوطني السياسي، وحالة النهوض الثقافي والفكري. فكلا حالتي النهوض تغذيان بعضهما إيجابيًا، وكلاهما معا يصنعان الهوية والشخصية الوطنية والقومية للشعب أو الأمة. كما أن هناك علاقة بين ما تمر به الشعوب من تحديات وأزمات ومحن صعبة وبين ظهور وعي وثقافة جديدة أكثرعمقًا وتجذرًا في المجتمع.

الحالة والتجربة الوطنية الفلسطينية خير مثال، وكيف تجلت هذه العلاقة بين السياسي والثقافي، وبين التحديات والمحن والثقافي. وعبر المحطات، نلاحظ كيف جاءت ثورة أعوام 1936 وحتى 1939 بعدد من الشعراء والكتاب والمؤرخين، وكيف ازدهرت الصحافة في فلسطين. فقد قدمت مرحلة النهوض هذه شعراء مثل عبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان. وكيف صقل شعر هؤلاء وغيرهما الشخصية الوطنية الفلسطينية. وردًا على نكبة عام 1948  جاء غسان كنفاني وهارون هاشم رشيد وأبو سلمى. ولاحقًا، مع حالة النهوض السياسي التي رافقت انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ظهر العديد من الشعراء والروائيين الكبار، من محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، إميل حبيبي، خالد أبو خالد، جبرا إبراهيم جبرا،يحيى يخلف، رشاد أبو شاور وآخرين.

ولم تكن الثقافة مقتصرة على الأدب، بل في حالة النهوض ظهر الرسم التشكيلي والسينما والمسرح الفلسطيني، وأعيد إحياء التراث الوطني الفلسطيني بكل أشكاله، الرقص، الأغنية، الموسيقى، اللباس التقليدي.

وإلى جانب كل ذلك، ازدهرت الصحافة الفلسطينية، وازدهرت معها التعددية السياسية والفكرية، وكان من نتيجة هذا كله بلورة الهوية الوطنية وصياغتها على أسس يشعر معها كل فلسطيني بغض النظر عن الجنس والدين والطبقات والفئات الاجتماعية، بأنها تعبر عنه، وان فلسطين هي وطنه التاريخي الذي لا يمكن التنازل عنه.

وفي الذكرى الثانية عشرة لرحيل محمود درويش، رمز الثقافة الوطنية الفلسطينية، والمساهم الأكبر في صناعة الهوية الوطنية المنفتحة على العالم، في هذه الذكرى الحزينة علينا أن نعترف بان الثقافة الفلسطينية في حالة تآكل وضعف في مختلف المجالات، وهذا تعبير عن حالة موضوعية صعبة. ولكي لا نجلد أنفسنا أكثر مما يجب، فإن هناك أزمة ثقافة عربية عامة ومن ضمنها نحن في فلسطين، فالأمة العربية تعيش أكثر المراحل انحطاطًا وتمزقًا، فلا عجب أن يكون حال الثقافة بهذا التراجع، فهي انعكاس مباشر للواقع.

وبما أن الواقع الفلسطيني مختلف، فنخن نخوض صراعًا وجوديًا على الهوية  والرواية، ولإدراكنا بأن الثقافة هي الوجه الأصعب والأعمق لهذا الصراع المرير، فإن الواجب والضرورة تحتم عمل كل شيء من أجل النهوض بالحالة الثقافية، وأن تمنح أي خطة معقولة كل الدعم. فإذا كنا نريد استعادة حالة النهوض الوطني، وان نحافظ ونعزز الوعي والهوية فالثقافة لها الأولوية.

في ذكرى رحيل درويش، وإذا أردنا ان نجعله قرير العين مطمئنًا على البذرة التي زرعها، علينا أن نرفع راية الثقافة الوطنية الملتزمة، أن نرى رعاية للكتاب والشعراء الشباب، أن نرى اهتمامًا أكثر بالسينما والمسرح، وأن نعمل على تنمية ودعم مراكز وفرق التراث الشعبي، ان ننظم المسابقات في الرسم وكتابة النصوص الأدبية والأفلام الوثائقية، التي توثق الرواية الفلسطينية. ان هذه المهمة الوطنية الكبيرة هي من مسؤولية الجميع، الجهات الرسمية، والقطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني وكل فلسطيني يمكنه الدعم وتبني مشاريع نشر. هذا التحدي هو المعيار لجدية مشروعنا الوطني.