ما كان لبنان في الأمة العربية هامشًا، ولا كان فاصلة لم تعرف الجُمَل العريضة، وما كان لبنان نَكِرة أبدًا بين عديد المعرَّفين.
ما كانت بيروت الوصيفة الأولى بين عواصم العرب، وهي الناضجة بالحياة، الساعية عبر متغيرات الأزمان والسلاطين والأنواء نحو شعاع الشمس البعيد تتصيدُ منه البهاء وكثير من الأنوار، بل كانت ملكة جمال الأمة وتاج انبثاقها الرفيع.
حين عرفت الأمة تميزها نصّبت بيروت عاصمة الحياة والجمال، والعشق المزروع بالأضلاع وبين السفوح.

 وحين اغترفت من بئر الخلود غَرفَة واحدة ضمت بين جوانحها مقامات الأسياد والمشايخ، وتركات الباشوات، وزوايا الصوفية، وخلوات المحبين، وكنائس القديسين المشتاقين للنور، والعيون الحجازية والقدود الحلبية واللطف التونسي المعتّق، وعصير قلوب المغاربة.
حين عرفت الأمة تميزها فانعتقت من براثن القبضة الاستبدادية برجالات النضال، كانت بيروت حاضرة، كما كانت ودمشق والقدس رغم أعواد المشانق التي نصبت لأبطال العروبة، فتلطخت أيدي الظلاميين بالدم المسفوح. 
بيروت اختارت البحر، كما اختارته حيفا مدينتي، وما انتقلت بعيدًا عن البحر عبر السنين لأنها اتخذت لها بين الموانيء مكانًا بهيجًا لا ينفصل عن ضحكات الغاديات صباحًا، وعبث الساريات ليلاً يتلوّين كموج البحر.
 بيروت إعصار الأجساد المنبثقة ما بين غيوم العيون، وارتفاعات قطرات الندى على شبابيك البيوت الجميلة الدقيقة الأطراف، المطلّة على الشواطيء الرحبة.
لبنان اختار من التاريخ أن يحمل على ظهره التناقضات فينجو ولا يغرق. 
في لبنان يتعايش الفتى المقنع بإيمانه الماضوي مع صبايا الحداثة السافرات، ويشتركون في لعبة شطرنج على أبواب الجامعة، يظللهم خيمة من الكتب المنتشرة من الجنوب الى الشمال.
في بيروت يقف المتحاربون صفًا واحدًا لتحية زهرة اختارت أن تشق طريقها بينهم، فيتذلّلون للعبير عساهُ أن يطالهم، تاركين السلاح يغفو قليلا.
بيروت مولاتنا عرفت التناقضات بأجلى صورها، لأنها كالبحر الذي اختارها واختارته للجوار.
بيروت قطب الغوث والأئمة والأوتاد الصوفية، الزاخرة بالجمال والقبح، بالفوضى ودعاة النظام، بالتذبذب صعودا وهبوطا كجبال ووديان لبنان العربية الفينيقة الخالدة.
لبنان جمع كل القبائل والنقباء.
جمع الأجواد منهم فرسموا للجمال مكانةً فيه علِيّة، والتصق بظهره من كل قبيلة انتهازيٌّ، ومحارب وضرير.
كلهم اجتمعوا يخطبون ودّه، وحين يشير بأصبعه لمكمن النور والجراءة والسرور، يصطفون على شواطئه كالتلاميذ انتظارا لهدوء المدافع وسكون العواصف.
نحن الفلسطينيون في لبنان جزء من كلّ، وهم في فلسطين جزء من كلّ، ولولا ما كان من الوسيط الوهمي الفاصل بينهما، لكنا من المجدل الى طرابلس ومن يافا الى صيدا نسبح في ذات البحر ونصيد من نفس المركب.
لبنان حينما يحزن تظلل الامة غيمة سوداء، وتنغرس في قلب العرب حربة، ويتضرج التعب بآهات المفجوعين، فتلتحق بركب العروبة المذبوحة هذه الأيام من الوريد الى الوريد.

بيروت جعلت من مصير الأمة بين أصبعيها، ففيها الشفق يذوب في صدور الجميلات، ويعود النهار متألقًا على أعتاب ساحات الوغى حين تكون قد تدرّعت بالسيف والترس.
لبنان الفوضى والتناقضات والاختلافات والصراخ من كل جانب، هو لبنان التنوع وجمال التعددية، وينبوع الحوار والتشاركية، وعمارة القلوب، ومفتاح المنفلتين من عقال الوسطية والاعتدال والنبوغ.
لبنان لا يرفض أحدًا، لذلك عاش وفي صدره الأوجاع وكثير من العِلل، لكنه ابتكر وأبدع، وصنع اللقاح الذي جعل من الأوجاع ندوبًا على الوجنات أو الأذرع، وتسير بها الحياة.