تنشر وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، اليوم السبت، بالتعاون مع اتحاد وكالات الأنباء العربية "فانا"، تقريرا عن القطاع الثقافي في تونس، أعدته وكالة تونس أفريقيا للآنباء هذا نصه:

عادت تونس بعد أكثر من 20 سنة لتسجيل عنصر جديد، هو عنصر المعارف والمهارات المرتبطة بفخار نساء سجنان، والذي تمّ إدراجه يوم 29 نوفمبر 2018 في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو.

هذا الإنجاز الذي تحقّق لتونس كان ثمرة مجهودات نساء سجنان اللاتي صنعن أمجادهنّ من صناعة الطين، فشكّلن منه قطعا فخارية فريدة من نوعها، ارتقت بتونس إلى العالمية من جديد.

يبلغ عدد حرفيات سجنان اللاتي يشتغلن في مجال الفخار اليدوي حاليا 380 حرفية، بحسب رئيس جمعية المحافظة على البيئة بسجنان منجي البجاوي، الذي أكّد أن جميع الحرفيات ينتمين إلى عائلات محدودة الدخل، وأن هذه الصناعة اليدوية تمثل مصدر رزقهن الوحيد للإنفاق على أسرهنّ.

الخالة ربح سعيداني امرأة كادحة تبلغ من العمر (60 سنة) تمتهن حرفة صناعة الفخار منذ أن كان عمرها 10 سنوات، تظهر عليها علامات الفقر والخصاصة والتعب والإنهاك، لكنها تخيّر العمل كوسيلة لمقاومة مشقة الحياة ومتاعبها رغم تقدمها في السن.

هي امرأة أعياها الوقوف على قارعة طريق يكاد يكون خاليا من المارة، تنتظر توقّف حريف بسيارته لشراء إحدى القطع الفخارية التي قدّتها بأناملها بعد أن أخذ منها التعب مأخذه، لكنها قرّرت، بعد طول انتظار، نقل منتوجها إلى ساحة في منطقة "الجبيسة" الريفية على عربة نقالة، حيث تعرض مثيلاتها من الحرفيات منتوجاتهنّ بحضور وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين وعدد من المسؤولين الجهويين والمحليين، لعلّها تتمكن من ترويج بعض التحف الفخارية للزوار.

بنبرة تتداخل فيها مشاعر الألم والحزن والتشنج، تعبّر الخالة ربح سعيداني عن غضبها واستيائها الشديد لـ "عدم تدخل الدولة" الكافي لدعم هذا النشاط الحرفي، قائلة "نحن نتعب ونشقى من أجل قوتنا وقوت أبنائنا، نحن نبيع هذه القطع بأثمان زهيدة جدا، فسعر القطعة الواحدة لا يتجاوز عشرة دنانير...أين دعم الدولة لنا؟".

وتشدّد العديد من نسوة سجنان، على حاجتهنّ لدعم الدولة خاصّة من الجانب المادي، فهنّ يؤكدن على حاجتهنّ للدعم من أجل استمرار العمل في هذا المجال والمحافظة على هذا الموروث وتمرير مهاراتهن في صناعة الفخار للأجيال اللاحقة، "فإذا لم نتمكن من بيع منتوجنا تكسد البضاعة وتغلق أبواب الرزق أمامنا"، هكذا تحدثت حرفية كانت مجاورة للخالة ربح.

وتشكو النسوة "سطوة" بعض الجمعيات على منتوجاتهن بأسعار زهيدة، فبعض الجمعيات "تستفيد مما نشقى من أجله في معارض داخل تونس وخارجها، ولا تمكننا من مستحقاتنا، بل لا ينوبنا سوى بعض الدنانير"، تقول إحدى الحرفيات.

تأتي النسوة بالطين من المرتفعات الوعرة المتاخمة للقرى بمعتمدية سجنان، وهذه المادة تتميّز بكونها غنية بمادة الكلس ما يجعلها صلبة، وتنفق نساء سجنان الكادحات الكثير من المال لنقل الطين إلى بيوتهنّ حيث خصّصن ركنا من البيوت لصناعة الفخار، كما يُنفقن أيضا لشراء الحطب، ويستخدمنه في "طهي الفخار".

يتطلّب العمل على تشكيل الأواني والأشكال الفخارية مراحل عديدة، ووقتا طويلا قد يصل إلى 6 أيام للقطعة الفخارية الواحدة، وكلّ هذا الوقت يُستغرق في جمع الطين ووضعه في الماء لفترة ثم إخراجه وعجنه، لتقوم المرأة بتمليس الطين وتشكيل القطعة الفنية على شكل إناء للطهي أو قطع ديكور للزينة أو تشكيل بعض عرائس الطين، أو تشكيل بعض الحيوانات منها السلحفاة والخمسة والسمكة وغيرها.

ويتم تجفيف التشكيلات الفخارية في الظل حتى تتماسك القطعة، وتتجنّب النسوة تجفيفها تحت الشمس حتى لا تكون القطعة الفخارية عرضة للتشقق، ثم يوضع المنتوج في النار، وإثر ذلك تضيف النسوة الحرفيات إلى منتوجاتهن بعض الزينة والرسومات التي تستوحينها من التراث ومن المعتقدات الشعبية.

ولفخار نساء سجنان بولاية بنزرت، خصوصيات عديدة تميّزه عن المنتوجات الخزفية في عديد الجهات التونسية الأخرى، فما يُميّز فخار سجنان هو كونه يدويّ الصنع وريفيّ أي مرتبط بالمرأة الريفية، على عكس الفخار الذي يعتمد على آلة الخراطة وهذا النشاط تشتهر به ولاية نابل ومنطقتا المكنين وجربة، ويمتهنه الذكور عامة.

ويتميّز فخار نساء سجنان أيضا بنوعية الطين المستخدم، فهو غني بالكلس، بالإضافة إلى الزينة، وهي في أغلبها نقوش بربرية ورسومات وأشكال تعبّر عن نمط حياة أهالي سجنان والقرى المجاورة، وهي أشكال فنية ذات بعد إنساني، إذ تعبّر بعفوية عن التوق إلى الحرية، ويتمظهر ذلك بالخصوص عبر الأشكال والألوان.

وهذه النقاط هي التي دعمت بقوة ملف تسجيل عنصر المعارف والمهارات المرتبطة بفخار نساء سجنان في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو، وفق الأستاذ الباحث بالمعهد الوطني للتراث عماد صولة، مبرزا أن لهذه المهارات أبعاد تاريخية وأنثروبولوجية واقتصادية.

ولاحظ أن الرموز الموجودة على المصنوعات الخزفية، توجد أيضا على محامل أخرى كالنسيج والألياف النباتية، وهذه الرسوم ذات شكل هندسي مجرّد يُعبّر عن التوق إلى الحرية، وفيها أيضا نوع من تمثّل الكون في أشكال معيّنة، وهو ردّ فعل عفوي وشكل من أشكال التعبير.

ويؤكد الباحث عماد صولة أن تسجيل عنصر المهارات والمعارف المرتبطة بفخار نساء سجنان في القائمة التمثيلية العالمية للتراث اللامادي لليونسكو، وهو اعتراف دولي رفيع المستوى يُعيد الاعتبار لهذه الذاكرة الحرفية.

ويُشدّد صولة أيضا على أن من واجب الدولة والجمعيات الاستثمار في هذا الإنجاز بوضع برامج ثقافية وتنموية وتربوية، مضيفا "المهم بالنسبة إلينا هو المحافظة على الذاكرة وتمرير هذه المهارات والمعارف للأجيال اللاحقة".

وقد انطلق الإعداد لملف تسجيل عنصر المعارف والمهارات المرتبطة بفخار نساء سجنان في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو سنة 2016، وتواصل سنة 2017. ومرّ هذا الملف بعدّة مراحل، أهمها جرد عنصر المهارات والمعارف المرتبطة بفخار نساء سجنان في القائمة الوطنية للتراث اللامادي.

وعن العراقيل التي اعترضت تسجيل هذا الملف، قال عماد صولة "في البداية لم نحظ بالدعم الكافي، لكن العمل كان مثمرا تدريجيا مع الخزافات"، معتبرا أن من أهم مزايا هذا الملف هو الأثر الذي تركه في عدة جهات لتسجيل عناصر في مجالات أخرى منها "مائدة يوغرطة" بقلعة سنان من ولاية الكاف.

ولم يخف في حديثه وجود عديد الصعوبات في الترويج للمنتوج رغم المجهودات المبذولة للتعريف به، ذكر من بينها نقص المعارض الذي "قد يؤدي إلى فقدان عنصر الإتقان في الألوان والتشكيلات الزخرفية"، وهو ما يستدعي تعزيز دور الهياكل الرسمية والمجتمع المدني في المحافظة على الجودة والإتقان، والحفاظ على هذا الموروث الحرفي والثقافي والإنساني.

ومن شأن التفكير في إحداث مسالك توزيع لهذه المنتوجات الفخارية المتفردة، وإحداث فضاءات عرض قارة بعدد من الجهات، أن يُساعد على دعم حرفيات سجنان، وأن يوفّر لهن مورد رزق قار حتى لا تبقى الخالة ربح ومثيلاتها رهن مرور أصحاب السيارات عبر طرقات سجنان وأريافها ذات يوم ربيعي.