في كل عام يمر علينا حزيران مثقلاً بحرارة الصيف وحرارة ذكريات الحروب المريرة وتداعياتها على الأرض والإنسان والقضية الفلسطينية، بقايا النكسة الأولى منذ عام 1967 وما تبعها من آثار ما زال يعاني منها الشعب الفلسطينيبكل فئاته وفي كافة أماكن تواجده حتى الآن، فما زالت قضيته على محك الصراع في هذه الأيام، وربما تواجه مخاطر تزداد خطورتها بدرجات أشد من سابقاتها، وارتدادات الأوضاع الإقليمية والعالمية خلقت ظروفًا معادية لمسيرة شعبنا لبناء دولته المستقلة وفق القوانين والمواثيق الدولية، ومع قساوة الذكرى والتهديدات الجديدة بالتهام المزيد من الأراضي الفلسطينية ضمن فصول ووعود صفقة القرن، إلا أنها مرحلة يواجهها الشعب والأرض بكل صمود رغم الظروف المجحفة واختلال موازين القوى لتبقى ذكرى النكسة علامة على بقاء الحق الفلسطيني على قيد الحياة وليست شهادة وفاة لحقه في الحياة كباقي شعوب الأرض وتقرير مصيره بيده والعيش بسلام وأمن في دولة كاملة السيادة.

هذا العام تتزامن ذكرى النكسة مع استمرار حالة من الجمود السياسي ومحاولات الاحتلال توظيف جائحة "كورونا" للتحضير لنكسة جديدة من خلال التهديد والتخطيط لضم أراض جديدة تحت قوة الأمر الواقع، صفحة جديدة من صفحات مصادرة وتهويد الأراضي الفلسطينية في مخالفة لكافة القوانين والمواثيق الدولية التي تعتبر هذه الأراضي محتلة وفقًا لقرارات مجلس الأمن المتعاقبة، الأمر الذي يتطلب يقظة متجددة لمجابهة هذا التهديد والحفاظ على مشروع حل الدولتين باعتباره الشرط الأساسي لاستقرار المنطقة وشعوبها.

التهديد بضم أراض فلسطينية جديدة يشكل تهديدًا استراتيجيًّا ليس فقط للتواصل الجغرافي بين أراضي الضفة وعلاقتها بالحدود التاريخية مع جيرانها من الدول العربية الشقيقة، لكنه أيضًا يقوض القاعدة الجغرافية اللازمة لبناء دولة تلبي احتياجات سكانها، وهو تدمير للسلة الزراعية الإنتاجية بشكل استراتيجي وتوجيه ضربة قوية للقطاع الزراعي الفلسطيني بشكل عام، فالآثار المدمرة لا تقف عند الأبعاد الأمنية وإنما ستضرب المجتمع ككل انطلاقًا من استهداف الأسر المعتمدة على هذا القطاع إنتاجًا وتسويقًا واستهلاكًا، فالضم والمصادرة لن يبقيا أحدًا بأمان مهما كانت المسافات، ما يعني خسائر جغرافية واقتصادية ستشكل بوابة لتفشي البطالة وارتفاع معدلات الفقر وارتفاع خسائر القطاع الزراعي والناتج المحلي الإجمالي وكافة مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية على مستوى المناطق المهددة بالمصادرة والتجريف والإغلاق لتمتد لباقي مكونات الأراضي الفلسطينية.

إنها تداعيات صفقة القرن التي تم رفضها من القيادة والشعب في كل مكان، لكن الاحتلال يسعى لتطبيقها بقوة الأمر الواقع والدعم المنحاز الذي يتلقاه من بعض الدول، فحسب مخططات صفقة القرن فإن مساحة الأراضي المتوقع مصادرتها قد تصل لنحو 33% من مساحة أراضي الضفة (وفق دائرة شؤون المفاوضات)، وأغلبية هذه الأراضي تقع في منطقة الأغوار والمعروف عنها بأنها مناطق زراعية وتمثل سلة الغذاء الفلسطينية الاستراتيجية، وبالنظر لحجم الاستثمارات العامة والخاصة التي تمت خلال المرحلة الماضية فقد مكنت هذه المنطقة من تجاوز مرحلة الإنتاج للسوق المحلية وانطلقت لتصدير إنتاجها للسوق العالمية، مثل( التمور، النباتات الطبية وغيرها من المنتجات الفلسطينية) وباتت تساهم بنسبة عالية بالإيرادات من عملية التصدير للأسواق الخارجية لتصبح قصة نجاح تنافس نظيراتها الإقليمية والدولية.

تنطوي مخاطر الضم للأراضي في منطقة الأغوار على تهديد مباشر لكافة فئات المجتمع الفلسطيني خاصة النساء العاملات في القطاع الزراعي والإنتاجي في هذه المناطق الهشة، وهو تدمير لكافة الجهود الرسمية الفلسطينية لتطوير عملية التنمية لهذه المناطق، خاصة المشاريع الإنتاجية الكبيرة ومشاريع تشغيل سكان تلك المناطق ومشاريع تمكينهم وتثبيتهم على أراضيهم، ولا شك أن العاملة في القطاع الزراعي ستكون من أكثر الفئات تأثرًا جراء القرار الإسرائيلي بالضم والتهويد في منطقة الأغوار، خاصة في ظل تركز نحو 6% من العاملات في فلسطين ضمن الأنشطة الزراعية وفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (تقرير القوى العاملة 2018)، وهذا يعني من الناحية العملية زيادة معدلات الفقر والبطالة بين النساء جراء فقدان مصادر الدخل وفرص العمل التي كانت الخيار المتاح لمواجهة معدلات البطالة التي هي بشكل عام مرتفعة بين النساء ضمن الفئة العمرية 15 سنة فأكثر، كما وصلت حسب المصدر نفسه لنحو 51.2% وتصل لنحو 75.2% ضمن الفئة العمرية 15 – 24 من الإناث حسب المصدر السابقنفسه.

من هنا نؤكد أن صفقة القرن ومن خلال تنفيذ عملية الضم والتوسع في منطقة الأغوار وأريحا ستشكل نكسة جديدة تقدم عليها سلطات الاحتلال ضد مئات آلاف الأسر الفلسطينية التي ستحرم من أراضيها التاريخية وستخسر مصادر دخلها وتُدمر مشاريعها الزراعية، وستكون العاملات في مختلف الأنشطة الزراعية في مقدمة المتضررين والمنكوبين، سواء العاملات بشكل مباشر في القطاع الزراعي أو العاملات في شركات ومصانع التعبئة والتغليف للمنتجات الزراعية، مثل( شركات تعبئة التمور).

نحن أمام نكسة جديدة تطال الإنسان والأرض، لأنها لن تتوقف على مصادرة الأرض وتدمير الحيازات الزراعية والحيوانية في الأراضي المهددة بالضم، بل ستؤدي إلى نكسة تشريد جديدة للمزارعين والمزارعات، ليس فقط على مستوى الحيازة الزراعية وإنما ستمتد لمهن وأنشطة أخرىذات صلة بالأنشطة الزراعية خاصة تلك المتصلة بالباعة والحرف والمهن الأولية في تلك المناطق والتي تشغلها نحو 27.8% من العاملات وفق المصادر الرسمية.

هذه التهديدات بالضم والتدمير والمصادرة لتطبيق بنود صفقة القرن لو كتب لها النجاح، ستكون فصلاً جديدًا من معاناة شعبنا ، لأن هذه النكسة ستعيد تقطيع ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وستوجه ضربة قوية لعمود الإنتاج الزراعي، وتدمير لقصص نجاح مشرقة نسجتها العاملات والعديد من المؤسسات الرسمية والخاصة للنهوض بهذه المنطقة، خاصة قصص نجاح المزارعات، فالمزارعة هي"سنديانة الأغوار"، في منطقة الأغوار الشمالية التي تعيش فيها أنشط المزارعات في فلسطين المسؤولات عن إدارة المشاريع الزراعية، كما أنهن يمثلن الأيدي العاملة في حال كان الرجل هو صاحب المشروع، وهن العمود الفقري في عملية الإنتاج في المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر، إلى جانب دورهن في إنشاء العديد من الجمعيات النسوية في هذه المناطق، وكلها قصص نجاح تمت بجهود وتضحيات جسام.

هذه النكسة تمثل قتلاً للإنسان والأرض من جديد، وسيكون وقعها شديدًا على كافة مكونات القضية الفلسطينية، وعلى المستوى اليومي سيكون وقع الضم والتدمير مأساويًّا لأنه سيقطع سبل الحصول على لقمة العيش الكريم، وسيكون تهديدًا دون رحمة أو مراعاة لحقوق الإنسان تحت الاحتلال، للكيانات الاجتماعية والاقتصادية، وتقويضًا للحقوق الوطنية الفلسطينية، ولذلك فإن الجهود والتعاون والتعاضد المجتمعي والرسمي هي صمام الأمان لمواجهة هذا التهديد، والاصطفاف خلف قرارات القيادة في إطار وضع المناطق المهددة بالمصادرة على رأس أولوياتها في هذه المرحلة من خلال تعزيز صمود المزارعين والمزارعات على أراضيهم كهدف استراتيجي وبرامج عمل يومية على مستوى التدخلات والأولويات والسياسات وتوجيه المشاريع لهذه المناطق بشكل خاص، باعتبار ذلك من أسس الصمود والتمسك بالأرض وحماية الحيازات والمشاريع، وتعزيز صمود الإنسان الفلسطيني على أرضه، وفي هذا فليتسابق المتسابقون.