في الحرب المفتوحة مع دولة الاستعمار الإسرائيلية، تقف القيادة والشعب الفلسطيني أمام تحدٍ متعدد الأوجه من قبل الدولة القائمة بالاستعمار، التي تحظى بموازين قوى راجحة بشكل كبير لصالحها، ولديها أوراق قوة تعمل على استعمالها وفق منهجية علمية مدروسة لتحقيق أهدافها الاستعمارية في أراضي دولة فلسطين المحتلة في الخامس من حزيران/ يونيو 1967 في الضم والأسرلة والتهويد والمصادرة، وفي ذات الوقت طمس وتبديد المشروع الوطني الفلسطيني، وتصفية خيار السلام عمومًا وحل الدولتين خصوصًا، وتمزيق ودفن كل الملفات الأساسية: حق العودة للاجئين لوطنهم، القدس العاصمة، الاستيطان الاستعماري، الأمن والحدود والثروات الطبيعية وأسرى الحرية، وتحويل السلطة وأجهزتها الأمنية إلى "مجرد أداة" تعمل في خدمة المشروع الصهيو أميركي المعادي.

وأجزم أن القيادة الصهيونية ومن خلفها الغرب الرأسمالي عمومًا والأفنجليكان في إدارة ترامب خصوصًا لا يفقهون المسألة الفلسطينية، ولا يعرفون الفلسطينيين. واعتقد، أنهم اعتقدوا أنهم يعرفونهم من خلال تعاملهم مع مجموعة العملاء، والأدوات الرخيصة والمتأسرلين، ومن خلال علاقاتهم الإستراتيجية مع جماعة الإخوان المسلمين ومن لف لفهم من الإسلام السياسي، ومن خلال تعاملهم مع ممثلي الأنظمة السياسية العربية المطبعة والمتورطة في لعبة التفريط بقضية العرب المركزية. لكنهم يومًا تلو الآخر يكشفون عن جهل مدقع في فهم العقل السياسي الفلسطيني، ما دفعهم للاندفاع المجنون نحو التصفية الكلية للمشروع الوطني الفلسطيني بالتعاون مع الإدارة الأميركية الغارقة في هواجس وعبثية الأساطير والخزعبلات الدينية والميثولوجية وصولاً لحرب يأجوج ومأجوج، الأمر الذي وضع القيادة الفلسطينية أمام الأسئلة الوجودية الصعبة في أن تكون ويكون المشروع الوطني أو لا تكون، وتقع في المحذور التاريخي.

وكان الرد على لسان الرئيس محمود عباس، الذي أكد عشرات المرات "لن أختم حياتي خائنًا". وهذا هو لسان حال كل رفاقه وإخوانه في اللجنة المركزية واللجنة التنفيذية للمنظمة وقادة الفصائل الوطنية والنخب السياسية والثقافية، فضلا عن قطاعات الشعب في الوطن والشتات وحيثما تواجد الفلسطيني، لأنهم لم يميزوا بين التكتيك والمرونة السياسية، وبين الثوابت الوطنية والحقوق والمصالح العليا، حتى اعتقدوا أن التكتيك الفلسطيني، هو الناظم للعقل السياسي الفلسطيني، وهنا كان مقتل جهلهم، وبؤس تفكيرهم، وجمودهم العقائدي.

ومما أغواهم على السقوط في متاهة الوهم، القفزة غير المسبوقة في مسار ومكانة الدولة الاستعمارية ومشروعها الاستعماري في العقود الأربعة الأخيرة وتحديدًا بعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد الأولى مع مصر 1979، وما تلاها من انهيار للاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية ومعها حركة التحرر الوطني العربية، ودخول الحركة الوطنية الفلسطينية في أزمة عميقة، رغم الانفراجة والانعطافة الهامة، التي شكلتها الانتفاضة الكبرى (الثورة في الثورة) 1987/1993، التي مثلت رافعة مؤقتة للقضية الوطنية، وأنقذتها من حبل المشنقة، الذي أعد لها عشية اندلاع شرارتها عام 1987، وأعادت الاعتبار لها مع انتقال مركز القرار إلى أرض الوطن الفلسطيني.

وبعيدًا عن السيرورة المعاصرة للثورة والمآلات والمأزق الذي ولجت إليه القضية والشعب والمشروع الوطني نتاج عدم أيضًا معرفتنا الدقيقة بالعقل السياسي الصهيوني، فإن القراءة السطحية للقيادات السياسية والأمنية الإسرائيلية الإستراتيجية للعقل السياسي الفلسطيني أدخلتها في أزمة مضاعفة، فضلاً عن أن المشروع الصهيوني ذاته وصل إلى الذروة، وأخذ في الانكفاء والتراجع. وما الأزمة، التي تعيشها إسرائيل إلا نتاج اصطدام المشروع الصهيوني بمعادلات معقدة وصعبة، منها فشل الصهيونية التاريخي في تمثل المسألة اليهودية، وعدم قدرتها حتى الآن على بلورة هوية حقيقية لليهود الصهاينة، رغم مرور 72 عامًا على قيامها، أضف إلى ذلك اصطدام الصهيونية وقاعدتها المادية "إسرائيل" بالقضية الفلسطينية ومركباتها وتشابكاتها العربية والأممية، ما افقدها الإمكانية لبناء دولة صهيونية نقية، وعمق أزمتها مع صعود العنصرية الصهيونية المتطرفة والساعية لتصفية الوجود الفلسطيني، والتخلص من ثنائية الهوية، غير أنها فشلت، ولن تفلح يومًا في تحقيق ذلك.

كما أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أدركت بعد معايشتها للقيادة الصهيونية ضرورة ردم الهوة الناجمة عن اتفاق أوسلو ومثالبه، ولهذا قامت بحسم مسألتين هامتين من خلال الحصول على مكانة دولة مراقب في الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 2012، الأولى حسمت بِشكل قاطع هوية الأرض الفلسطينية المحتلة في الخامس من حزيران عام 1967، باعتبارها أرض الدولة الفلسطينية، والثانية أن هذه الأرض ليست أرضًا متنازعًا عليها، وإنما هي أرض الشعب الفلسطيني. وهنا تمكنت القيادة من تجاوز عنق الزجاجة، لأنها قفزت عن أوسلو، ولم تعد الناظم للعلاقة الفلسطينية الإسرائيلية، إنما باتت الشرعية الدولية، التي تكرست بانضمام فلسطين للعشرات والمئات من المنظمات والمعاهدات الأممية.