نحيي شعبنا الذي صمد وضحَّى واستعاد مخيم نهر البارد من بين أنياب المؤامرة

إنَّ مأساة مخيم نهر البارد التي حصلت في 2007/5/20، وكان عدد السكان حوالي 400،37 بمن فيهم مهجرو مخيم تل الزعتر.

هذه المأساة التي هي عبارة عن نكبة ثانية بعد نكبة العام 1948 بالنسبة لأهالي مخيم نهر البارد، الذين كانوا يعيشون حالة من الاستقرار الإقتصادي، والأمني، والاجتماعي، كما أن علاقة أهالي مخيم نهر البارد مع الجوار اللبناني، وخاصة المنية وبلدات وقرى عكار، هذه البلدات والقرى التي يسكن فيها عائلات فلسطينية، وهذا ما متَّن العلاقة الأخوية بين الشعبين بشكل ملفت للانتباه. والذي وطَّد هذه العلاقة هو العيش المشترك، والمصالح المتبادلة، وأيضاً فإن أهالي عكار متعاطفون مع القضية الفلسطينية، ومع الشعب الفلسطيني.

أضيف إلى ذلك أن سوق نهر البارد التجاري والغني بمختلف المواد والاحتياجات سهَّل على اللبنانيين كما الفلسطينيين شراء كل ما يحتاجون إليه وبالجملة، ولذلك سوق عكار والمنية ودير عمار والجوار كان يعتمد على سوق نهر البارد، وكثيرون من تجار منطقة الشمال بشكل عام كانوا يقصدون مخيم نهر البارد لأنه يبيع بالجملة وبأرباح قليلة.

هذا الواقع الذي نتحدث عنه كان من أحد الاسباب التي دفعت بعض الاطراف التي لها مصالحها الخاصة، ولا ترضى على مثل هذه العلاقات اللبنانية الفلسطينية في منطقة الشمال، وخاصة مخيم نهر البارد وجواره، أن تحيك المؤامرة التي شاهدناها، والتي أخذت أبعاداً عسكريةً لاستفزاز الجيش اللبناني، والفصائل الفلسطينية، وجرِّ المخيم إلى الحرب رغماً عنه، علماً أنَّ الأهالي لم يكونوا يتوقعون ذلك.

لقد فوجئ الأهالي بدخول مجموعات دينية. وبشكل منظم مع أسلحتهم إلى المخيم وسيطروا على بعض المقرات التابعة لفصائل لا علاقة لها بمنظمة التحرير الفلسطينية،وعُرفت هذه المجموعات التي وصل عددها قرابة المئتين وخمسين مقاتلاً أحياناً بتنظيم (فتح الاسلام)، الذي ادَّعى أن هدفه هو الجهادي الإسلامي، وهذا ما جعل بعض الجهات تحتضنهم بحجة أنهم تنظيم إسلامي ليس له علاقة بالإرهاب، وهكذا تمَّ خداعُ الكثيرين بالشعارات التي رُفعت.

إلى أن كانت صبيحة .

وفي صبيحة يوم الاحد 2007/5/20 قامت مجموعة من هذا التنظيم الارهابي ( فتح الاسلام) بالانقضاض على الحاجز الرئيس للمخيم من جهة المحَّمرة، والسيطرة على الجنود ومفاجأتهم ومعظمهم كان نائماً، ويومها ارتكبوا المجزرة التي أودت بحياة الغالبية من قوة الحاجز العسكرية اللبنانية، ثم بدأوا المعركة من الداخل، ومن الخارج، للسيطرة على المخيم، وتهجير الأهالي بسبب القصف التدميري الذي تساقط على بيوت وشوارع المخيم دون تمييز، بعد أن توزَّعت مجموعات (فتح الاسلام) داخل المخيم وتمرست في مواقع ثابتة، مستندة إلى كميات السلاح والذخيرة التي أدخلوها إلى المخيم، وتحديداً إلى (قاعة صامد). ثم بدأ القصف المتبادل مع الجيش اللبناني الذي حاصر المخيم، وكانت الاشتباكات والقصف المتبادل على المخيم قد أثارت حالة رعب بعد سقوط عدد من الشهداء والجرحى، وهذا ما جعل المدنيين بكاملهم تقريباً يتحينون أيَّ فرصة هدوء من أجل مغادرة المخيم خوفاً على أُسرهم وأطفالهم.

ومن الواضح أن الجهة التي كانت تخطط لهذه النكبة، كانت تريد تشكيل إمارة لها في مخيم نهر البارد، ثم التوسع في محيط البارد، ثم الانتقال في عملية الهيمنة والسيطرة إلى المناطق المجاورة سواء في الضنية أو في مدينة طرابلس، خاصة أن هذه المناطق يغلب عليها الطابع الإسلامي، والسني خاصة بمعنى أن الفتنة المذهبية السياسية جاهزة.

الاَّ أن الموقف الموحَّد ما بين منظمة التحرير الفلسطينية، والجيش اللبناني، وحالة التنسيق المتواصلة قضت على هذه الفتنة في مهدها، ولكن كان الثمن غالياً من دماء أبناء شعبنا الفلسطيني ومعاناتهم وما زالت حتى اليوم، وأيضاً من أبناء الجيش اللبناني الذي تحمَّل مسؤولياته، وقدَّم أيضاً ما يزيد على مئة وستين شهيداً غالبيتهم من منطقة عكار. وعندما تم إنهاء هذه الظاهرة (تنظيم فتح الاسلام) في مخيم نهر البارد، تلاشت المخاوف الكبيرة الأمنية على صعيد المنطقة، ولكننا لا بد أن نؤكد مجموعةَ قضايا جوهرية لها علاقة بهذا الحدث المأساوي في تاريخ شعبنا:

أولاً: لقد أصرَّت القيادة الفلسطينية آنذاك وفي خضم المعركة على إبقاء كوادرها القيادية من منطقة الشمال ومعهم مقاتلون من الفصائل قارب عددهم المئة والعشرين، أن يبقوا في ساحة المعركة للدفاع عن مخيمهم إلى جانب الجيش اللباني، وفعلاً بقيوا في مربع معيَّن للمشاركة بما يطلب منهم. وسُمِّيَ هذا المربع بالمربع الاَمن. علماً أن هذا المربع تعرَّض لقصف شديد كباقي المواقع، وقدموا العديد من الشهداء والجرحى حتى ساعة الخروج من المخيم، علماً أن قيادة الجيش لم تطلب منهم المشاركة في الاشتباكات، وعندما شارفت الاحداث على نهايتها، وسقطت المؤامرة، وُقتل من قُتل، وجُرح من جرح، وأُسر من أُسر من تنظيم (فتح الاسلام) الارهابي طُلب من الجميع أن يغادروا المخيم بمن فيهم ضباط وكوادر الفصائل، وتم توقيفهم على الحاجز، والتحقيق معهم، واعتقال من كان مطلوباً للدولة. وهكذا دخلت نكبة مخيم نهر البارد مرحلة جديدة غاية في التعقيد الامني، والمعيشي، والفقر الشديد بعد أن فقد حتى الاغنياءُ أموالهم، وممتلكاتهم، ورصيدهم المعيشي، وأصبحوا يبحثون عن وجبة الطعام، وعن مكانٍ صالح للنوم سواء في المدارس، أو في الأندية، وأحياناً في المخازن التي تفتقد إلى التهوية.

ثانياً: لمسنا جميعاً نوعاً من التعاون مع الأونروا في ذلك الوقت العصيب، ورغم أنه كان المطلوب توفير المساكن، والإعاشات، والعلاج، والماء والكهرباء، والبنية التحتية، وأماكن للدراسة، خاصة أنَّ مدارس مخيم البداوي امتلأت بالأسر المنكوبة من نهر البارد.

ونؤكد أن التنسيق كان قائماً مع الأونروا مع الأستاذ محمد عبدالعال، ومع مكتب الأونروا في بيروت، لمتابعة كافة الاجتماعات، وتأمين الاحتياجات، والمشاركة في المؤتمرات المحلية والدولية.

ثالثاً: إن ما تمَّ إعادة بنائه حتى الآن من مخيم نهر البارد لا يتجاوز الـ 75%، وهذا يعني أنَّ هناك ربع سكان المخيم الاصليين لم يستطيعوا العودة إِلى منازلهم حتى الآن، ومنهم ما زال يقيم في تجمُّع بركسات الحديد والتي هي لا تُحتمل، ولا تصلح للسكن لا في الصيف ولا في الشتاء.

رابعاً: لقد كانت المعركة الشرسة التي خاضها أهلنا في مخيم نهر البارد هي معركة إستعادة بناء المخيم بعد تجريفه بالكامل بالجرافات، وحيث أصبح المخيم ملعباً، وتمَّ دفع أصحاب أرض المخيم المستأجرة منذ إنشاء المخيم لرفض إعادة البناء، ونتيجة حالة الصمود التي خاضتها القيادة الفلسطينية سياسياً، والاصرار الشعبي على إستعادة المخيم تمت موافقة رئيس الحكومة أنذاك سعد الحريري على إعادة استملاك الارض، ودفع هو الثمن المطلوب، هذا ما فتح طريق الأمل بالعودة إلى المخيم.

خامساً: ثم كانت المعركة الصعبة في رسم خرائط إعادة الإعمار، بحيث يتم الحفاظ على الأحياء وسكانها كما هي تقريباً، لإعادة الواقع الإجتماعي كما كان، هذا ما قام به فريق من المهندسين الفلسطينيين وفي مقدمتهم المرحوم أحمد عبدو  ميعاري أبو الأمم.

وقد كانت العملية معقدة لأنها تحتاج إلى موافقة الأونروا، وفريق المهندسين الفلسطينيين، وشركة خطيب وعلمي، ولكن الامور مرَّت على خير.

سادساً: عندما أعطى الجيش اللبناني الموافقة على فتح مداخل المخيم المدمَّر القديم والجديد، وسمح للأهالي بزيارة بيوتهم، وتفقدها، كان ذلك اليوم حاراً، وكان الازدحامُ شديداً، وكنت كقائد منطقة لحركة فتح موجوداً بحضور قيادات مركزية، ومن مختلف الفصائل، ورأيت الأهالي كيف دخلوا إالى بيوتهم المحترقة، والمدمرة، وكانوا يقبلون ما تبقى من أثاث، وعيونهم تنفجر بالبكاء، والبعض أصرَّ على تنظيف زاوية من غرفته، وجلس مع أسرته، وأصَّر على عدم الخروج مع غياب مقومات العيش. كان الموقف مؤلماً وصعباً لكنه كان يعبّر عن الإصرار والتحدي للعودة إلى مخيم نهر البارد، لأن هذه العودة هي بداية طريق العودة إلى فلسطين، فالمخيم اليوم بنظرهم هو مفتاح العودة والكرامة.

سابعاً: إنَّنا في حركة فتح نقدِّم التحية والتقدير لأهلنا أهالي مخيم البارد، الذين ضربوا مثلاً رائعاً في التحدي، والصمود أمام الازمات التي حلَّت بهم، والمعاناة المتواصلة، والخسارة الكبيرة في الأموال، والبناء، ومخازن البضائع، والشهداء والجرحى، وكانوا يتكافلون إجتماعياً، ويتضامنون على قلب رجل واحد من أجل تجاوز الأزمة الخانقة. ونحن نؤكد أنه لولا صلابة شعبنا في نهر البارد، وأيضاً دعمهم واستضافتهم من أهالي مخيم البداوي، وخاصة قيادة الفصائل واللجان الشعبية، والمؤسسات المحلية الفلسطينية والدولية، واللبنانية، والقوى السياسية والدينية اللبنانية التي وقفت مع أهلنا في البارد، ولا ننسى الأخوة المتطوعين وجهودهم الكبيرة، والجميع قدَّم الدعم السياسي، والمعنوي، والمادي، ولولا هذا كله لما استطعنا أن نقهر هذه المؤامرة.

لقد قدَّم شعبنا في البارد كما قي قطاع غزة، كما في القدس والضفة مثلا رائعاً في الصمود، ولن نستسلم. وستبقى مخيماتنا عنواناً للصمود والتحدي والكرامة، وصناعة المستقبل.

المجد والخلود لشهدائنا الأبرار،  والحرية لأسرانا البواسل، والشفاء للجرحى.                           .

 

وإنها لثورة حتى النصر

    قيادة حركة "فتح" في لبنان

 إعلام الساحة

2020/5/20