في زمن القحط والوباء التاجي، الذي عمّ العالم بكارثته رحلت تيريز هلسة من عالمنا إلى عالم الخلود يوم السبت الماضي، عن عُّمر يناهز الـ 66 عامًا، وبعد صراع طويل مع المرض، غير نادمة على مواقفها وقراراتها الدراماتيكية، التي اتخذتها في مسيرة حياتها وفصلتها عن موطن الولادة، وعن دفء العائلة، وعن رفاق الطفولة والمدرسة، وعن أحلام المراهقة.

أحداث بعينها قلبت أولويات ومعادلات الفتاة تيريز ذات الستة عشر ربيعًا، ونقلتها إلى عالم التراجيديا، منها القبض على مجموعة عكا في عرض البحر، التي استشهد أحد رجالها، ولم تسمح سلطات الاستعمار الإسرائيلية لعائلته برؤيته ووداعه. وارتبط ذلك مع تحول في العلاقة مع العائلات الصهيونية، التي جاءت مع الموجات الاستعمارية، التي نظمتها الحركة الصهيونية لفلسطين لتنفيذ مشروعها الكولونيالي، وقطنت في بيوت أبناء الشعب الفلسطيني، الذين أرغموا على مغادرة الوطن الأم نتاج المذابح والمجازر الصهيونية إلى المنافي والشتات، تلك العائلات الاستعمارية تغير سلوكها 180 درجة بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، وباتت أكثر عنصرية وهمجية مع أبناء الشعب الفلسطيني، الذين تجذروا في أرض الوطن، ورفضوا مغادرته، ومنهم تيريز، التي ولدت في مطلع كانون الثاني/ يناير 1954 في البلدة القديمة لمدينة عكا الجزار، وعاشت هذا التحول العنصري من خلال تعاملها مع أقرانها من أبناء تلك العائلات الصهيونية. على إثر ذلك  اتخذت القرار دون تردد، وحسمت بوصلة حياتها، لم تنظر إلى الخلف، عندما غادرت في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1971 مدينة عكا، والمستشفى الإنجليزي في الناصرة، واتجهت إلى الضفة الفلسطينية، ومنها إلى لبنان للالتحاق بالثورة.

المناضلة تيريز هلسة ولدت لأبوين عربيين، والدها أردني من الكرك، ووالدتها من قرية الرامة الفلسطينية في الجليل، ترعرعت طفولتها في وسط مناخ مضطرب، وعاصف، غير معالم التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، وقلب معايير الحياة رأسا على عقب في أعقاب نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، وإقامة دولة إسرائيل الاستعمارية. ونما وعيها الوطني والقومي في خضم الصراع اليومي مع الحكم الاستعماري العسكري، الذي فرض على الفلسطينيين بعد النكبة في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية المختلطة، وتعاظم نضوجها الوطني والقومي بعد نكسة الجيوش العربية في حزيران 1967، ومع اشتعال شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة في ظاهرتها العلنية في بلدان الطوق العربية، ما حدا بها مع زميلة لها للالتحاق بركب الثورة.

حين وصلت تيريز إلى بيروت، وطلبت الالتحاق بحركة فتح ، حيرت من التقتهم من القادة، حتى إن بعضهم اعتقد أنها "جاسوسة"، وجاءت مدفوعة من أجهزة الأمن الإسرائيلية. لكن تيريز البطلة أكدت وعمدت انتماءها عبر انخراطها المباشر في عمليات التدريب لتنفيذ العملية الفدائية مع أربعة من رفاقها الأبطال (ريما عيسى، علي طه، وزكريا الأطرش) التي حددت لهم، هي اختطاف طائرة من شركة سابينا البلجيكية في 8 أيار/ مايو 1972 لمطار اللد لمبادلة المخطوفين من الإسرائيليين الصهاينة بعدد من أسرى الحرية الأبطال في سجون إسرائيل الاستعمارية.

قدر لتيريز البطلة النجاة من الموت مع رفيقتها ريما، في الوقت الذي استشهد البطلان علي وزكريا. وحكم عليها بأربعة مؤبدات، قضت منها عشر سنوات في السجن، وأفرج عنها بعملية تبادل للأسرى عام 1983. وبعد الإفراج عنها واصلت النضال، ولم تتراجع عن خيارها الذي اتخذته عام 1971، وبقيت في الخنادق الأمامية للكفاح الوطني، حتى بعد زواجها، وإنجابها لثلاثة أبناء.

هذه المرأة الشجاعة مثلت بتجربتها الرائدة جملة من الدلالات، أهمها تأكيدها أن للمرأة دورا مهما في الحياة عموما والكفاح خصوصا، ولا يقل دورها عن دور الرجل؛ وعمقت مفاهيم الوطنية والقومية، حيث شاءت القول، إن الوطنية فوق كل الاعتبارات الجنسية والدينية والعرقية، ورسخت انتماءها الوطني والقومي كونها ولدت، كما أشرت لأب أردني وأم فلسطينية، فمزجت وصهرت هذه العلاقة بانتمائها للثورة، لقناعتها أن ثورة الشعب الفلسطيني، هي ثورة كل عربي وكل إنسان مؤمن بخيار السلام والحرية وتقرير المصير للشعوب المناضلة؛ وأضافت إلى جانب أبناء الشعبين الفلسطيني والأردني ومن أبناء الشعوب العربية وأنصار الثورة الأمميين من أتباع الديانة المسيحية، أن الدين ليس ذي صلة بالوطنية والقومية، فالدين لله، والوطن للجميع. وهكذا عمدت وطنيتها وقوميتها بالكفاح في صفوف الثورة لتؤكد انتماءها لفلسطين، التي ولدت وترعرعت فيها، بقدر انتمائها لهويتها الأردنية، وصقلت ورسخت هويتها القومية العربية.