جعفر صدقة

ستنتهي معركة المنتجات الزراعية، هذا الأسبوع او الاسبوع القادم او بعده، لكننا سندخل في معركة أخرى لشهر او شهرين او ثلاثة و"نتخارج" منها لندخل معركة جديدة، لكن على الأرجح فإن الحرب ستستمر عبر معارك قصيرة أو متوسطة المدى.

من بين أمور اخرى، كوقف التحويلات الطبية، جاء قرار الحكومة الفلسطينية في ايلول الماضي بوقف استيراد العجول من اسرائيل في اطار توجه فلسطيني جديد نحو "الانفكاك" عن اقتصاد الاحتلال، وهو سبب لم تكن اسرائيل بحاجة إليه في أي وقت من الاوقات لشن حرب تجارية، استهدفت خصوصا هذه المرة المزارعين الفلسطينيين، و"معركة العجول" التي يفترض انها انتهت باتفاق على ترتيبات جديدة في كانون الاول من العام 2019، تبعها قرار فلسطيني جديد بوقف استيراد البصل من اسرائيل حماية لموسم هذا المحصول، الوفير، في الاراضي الفلسطينية.

في قصة العجول، نستورد من اسرائيل نحو 120 ألف عجل سنويا، 80% منها يستورده تجار إسرائيليون من الخارج خصيصا للسوق الفلسطينية بهامش ربح يتجاوز 40 مليون شيقل، رأت الحكومة الفلسطينية ان المستهلك الفلسطيني أولى بها، وهو تفكير منطقي، لكن ردة الفعل الاسرائيلية كانت عقوبات عنيفة، لماذا؟

توريد العجول من اسرائيل الى الاراضي الفلسطينية، سواء من انتاج اسرائيل او من خارجها، يتم عبر عدد محدود من كبار التجار الإسرائيليين (اقل من 4 تجار)، على رأسهم ابناء رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق ارئيل شارون، تربطهم اعمال تجارية ومنظومة مصالح مع بعض التجار الفلسطينيين من الضفة الغربية ومن أراضي48، وباستغلال "وجع" مربي الماشية الاسرائيليين الصغار، شكلوا مجموعة ضغط قوية على وزارة الزراعة الاسرائيلية لدفعها لاتخاذ عقوبات ضد الحكومة الفلسطينية ومستوردي الماشية من الخارج مباشرة من الفلسطينيين، فاحتجزت اسرائيل لأسابيع آلاف العجول كانت قادمة الى السوق الفلسطينية من الخارج باستيراد فلسطيني مباشر، الى ان تم الاتفاق بين الجانبين على ترتيبات جديدة انطوت على تحقيق بعض المكاسب الفلسطينية المحقة.

اتفاق كانون الثاني قضى بان تسمح الحكومة الفلسطينية باستيراد عدد من العجول من اسرائيل خلال الشهر مقابل الافراج الفوري عن نحو 15 الف عجل استوردها فلسطينيون من الخارج تحتجزها اسرائيل في منشآت الحجر على الحدود، على ان يتم فتح الاستيراد من الخارج امام الفلسطينيين بسقف غير محدود، واعتبار اسرائيل احد المصادر وليس المصدر الوحيد او الرئيسي، وللفلسطينيين تحديد المصدر والكمية بحسب المصلحة الفلسطينية، كما توافق اسرائيل على اقامة منشأة حجر صحي فلسطينية، اضافة الى السماح بدخول الانتاج الفلسطيني من البيض الى الاسواق الاسرائيلية (انتاج فلسطين يتجاوز 100 مليون بيضة، الفائض يتجاوز 25 مليونا)، على ان يسري هذا الترتيب اعتبارا من مطلع كانون الثاني 2020.  

ولكن، سرعان ما تنصلت اسرائيل من هذا الاتفاق، وبادر وزير الحرب الاسرائيلي نفتالي بينيت لاتخاذ قرار بمنع دخول جميع المنتجات الزراعية الفلسطينية الى اسواقها ما لم تعد مسألة استيراد العجول الى ما قبل قرار الحكومة الفلسطينية في ايلول 2019، ما استدعى ردا فلسطينيا على مبدأ المعاملة بالمثل، بمنع دخول منتجات اسرائيلية: الفواكه والخضار، والمياه المعدنية، والمياه الغازية، والعصائر، وقد اختيرت هذه القائمة من المنتجات بعناية، اذ باستثناء عدد محدود من الفواكه، فان باقي هذه المنتجات لها بديل كاف في السوق الفلسطينية، فكان الرد الاسرائيلي توسيع العقوبات بمنع تصدير منتجات فلسطينية مهمة الى دول ثالثة، بما في ذلك عبر الحدود الفلسطينية الاردنية، وابرز هذه المنتجات: التمور، وزيت الزيتون، والاعشاب الطبية.

ما الذي ربحناه وما الذي خسرناه في هذه الحرب .. حتى الآن؟

خلال الاسبوعين الماضيين، تلقت الحكومة الفلسطينية عدة عروض من الجانب الاسرائيلي لوقف الحرب، لكنها لم تكن مقبولة للجانب الفلسطيني لربطها جميع القضايا بالتراجع عن الاتفاق الخاص باستيراد العجول من اسرائيل، وعودة الامور الى ما كانت عليه قبل ايلول، فيما تصر الحكومة الفلسطينية على سريان هذا الاتفاق.

فيما يبدو، فان ان الجانب الاسرائيلي بدأ يبحث عن حل تحت ضغط المزارعين الاسرائيليين، لكنها تتمنع تحت ضغط آخر هو الانتخابات، وفيما يبدو ان الانتخابات ايضا بدأت تتحول الى عامل ضاغط على بينت واليمين الاسرائيلي، اذ بدأت بوادر حقيقية لفقدان عدد من اصوات شريحة واسعة تنشط في قطاع الزراعة الاسرائيلي، وهذا ما ظهر من ردود مستشاري وزارتي الحرب والزراعة الاسرائيليتين على محامين يستعدون لرفع دعاوي امام المحاكم الاسرائيلية، بأسماء فلسطينيين من القدس، لإبطال قرار بينت، الذين طلبوا من المحامين بأن يتمهلوا قليلا فربما تصل المفاوضات إلى حل بين الجانبين.

في العام 2018، بلغت الواردات الفلسطينية الزراعية من اسرائيل حوالي 600 مليون دولار، نصفها فواكه وخضروات ابرزها التفاح والموز وبعض الفواكه غير الضرورية كالسفرجل والكاكا والاجاص (46 مليون دولار)، فيما بلغت قيمة الواردات الفلسطينية من اسرائيل من المياه المعدنية والمياه الغازية والعصائر حوالي 100 مليون دولار، وبإضافة قيمة العجول (حوالي 200 مليون دولار)، فإن القيمة المالية للقرارات الفلسطينية في لجانب الآخر يتراوح بين 400 و500 مليون دولار، من اجمالي الواردات الفلسطينية من اسرائيل نحو 3.5 مليار دولار سنويا.

في المقابل، فان الصادرات الفلسطينية الزراعية الى اسرائيل تبلغ حوالي 90 مليون دولار منها 55 مليونا خضروات، ابرزها: الخيار 31 مليون دولار، والبندورة 8 ملايين دولار، والزهرة (القرنبيط) 3 ملايين دولار، وهذا يعني ان الترجمة المالية للقرارات الاسرائيلية لدينا هي 55 مليون دولار.

بتوسيع العقوبات الاسرائيلية لتشمل الصادرات الفلسطينية الى الخارج، فان القطاع الاكثر تضررا هو قطاع التمور، حيث بلغ حجم الانتاج الفلسطيني منها الموسم الماضي 10 آلاف طن، 7 آلاف منها للأسواق الخارجية: تركيا، واوروبا، والخليج، وشرق آسيا، وقد تمكن المصدرون الفلسطينيون من تصدير 3500 طن حتى الآن، وبقي حوالي 3500 طن في المخازن جرى التعاقد لتصدير معظمها، لكن الاجراءات الإسرائيلية تحول دون ذلك، وقد بدأ المستوردون المتعاقدون على شحنات تمور فلسطينية بالتحرك مع حكومات بلدانهم للضغط على اسرائيل للإفراج عن هذه الشحنات، يضاف الى ذلك الصادرات من الاعشاب الطبية، والتي تقدر بنحو 15 مليون دولار سنويا.

ووفقا لهذه المعطيات، فان قيمة المنتجات الفلسطينية المتضررة تبلغ حوالي 100 مليون دولار، مقابل حوالي 400 - 500 مليون دولار قيمة المنتجات الاسرائيلية المتضررة، وفي حال توسيع الحرب من الجانب الفلسطيني، ونظرا لوجود فائض تجاري كبير لصالح اسرائيل، فان وجع الاسرائيليين سيكون اكبر بكثير من الوجع في الجانب الفلسطيني، وهذا يعطي تكتيك الحكومة الفلسطينية بخوض معارض قصيرة المدى، وفي قطاعات محددة، قدرا من الوجاهة والمنطقية، خصوصا انها تسبب ارباكا كبيرا في قطاعات موسمية حساسة يصعب تعويض اضرارها، كزراعة الموز في طبريا وغور الاردن على سبيل المثال التي تتطلب بيعا فوريا ولا تصلح للتخزين، وحتى تربية وتجارة العجول التي تصبح نشاطا خاسرا بعد تجاوز وزن العجل 400 كيلو غرام.

سنويا، فان مزارعي الموز يسوقون في الاراضي الفلسطينية نحو 10 آلاف طن تشكل خمس انتاج اسرائيل من هذه السلعة، وهو منتج لا يمكن الاحتفاظ به لفترة طويلة بعد نضوجه، ولا يمكن تركه على الأشجار، لذلك، فإن الضرر في هذا الفرع يصبح فوريًا.

ويقول مدير احدى الشركات الاسرائيلية لصحيفة "هآرتس" (عدد 17 شباط) "في هذه الأثناء نحن نحتفظ بالفواكه على الأشجار ونرميها بعد ذلك، ما يتوفر في مخازن التعبئة ولا يمكننا تصديره إلى الضفة الغربية وغزة يتم إتلافه أو بيعه بثمن بخس في الأسواق. من المؤلم رمي الفواكه، لكن أيضا بيعها في أسواق الجملة سيحطم الأسعار".

مكتب وزير الحرب الاسرائيلي رد بعصبية على "تذمر" المزارعين الاسرائيليين بقوله في بيان اوردته نفس الصحيفة قال فيه: "في أعقاب المقاطعة المستمرة التي فرضتها السلطة الفلسطينية على مربي العجول في إسرائيل والتي أضرت بشكل كبير بمئات المزارعين، قرر وزير الأمن منع استيراد المنتوجات الزراعية من السلطة لإسرائيل، وأيضًا فرض عقوبات أخرى. ادعاءاتكم غريبة على اقل تقدير، لأن المزارعين الإسرائيليين هم الذين توجهوا لوزير الامن من اجل التدخل في المسألة".

التكتيك الذي تتبعه الحكومة الفلسطينية مفيد لكنه لم يعد كافيا، حتى وان خرجت من هذه المعارك ببعض المكاسب، اذ ان نظام التحكم والسيطرة الذي تفرضه اسرائيل على الاراضي الفلسطينية، بما في ذلك المعابر الدولية، اضافة الى مغالاة السياسات العامة في العقدين الاخيرين في تشجيع الاستهلاك، وبالتالي الاستيراد، في محاولة لتقليص العجز في الموازنة العامة بتوسيع العجز التجاري، وانعدام الفجوة بين المعيشة اليومية للناس من جهة والعوامل الخارجية، وخصوصا الاجراءات الاسرائيلية، قلص قدرة الاسر على الصمود، وبالتالي قدرة الحكومة على خوض حرب طويلة الامد، ما يستدعي وضع هذه التكتيكات في اطار استراتيجي طويل المدى، يرفع قدرة الحكومة بالتدريج على الاستمرار في هذه الحرب، ولفترات طويلة وليس لأسابيع او اشهر.

فما المطلوب؟

في زراعة النخيل على سبيل المثال، التي شهدت توسعا كبيرا خلال السنوات العشر الاخيرة، حتى وصل الانتاج الفلسطيني منها 10 آلاف طن، وهو مرشح للارتفاع الى 15 الف طن خلال العامين القادمين مع دخول آلاف الاشجار مرحلة الانتاج، برزت تحذيرات كثيرة خلال السنوات الماضية من "الفوضى" في هذه الزراعة وخطورة خروجها عن السيطرة، نظرا لحاجتها اولا الى كمية كبيرة من المياه، وهي شحيحة المصادر، وثانيا لحاجتها لقدرات تسويقية كبيرة، خصوصا ان فائض الانتاج يتجاوز 70% حاليا وهو آخذ بالاتساع عاما بعد عام، ورغم النجاح الكبير في اختراق اسواق خارجية لتصريف هذا الفائض، الا أن ديمومة هذه الاسواق محل شك مع استمرار التحكم الاسرائيلي بعمليات التصدير، وكذلك الحال في قطاعات اخرى كالزيتون والخيار والعنب.

لقد جاءت حكومة محمد اشتية في ظل ظروف لا تستطيع معها الا ان تبدأ مقاربات جديدة في العلاقة مع اسرائيل، في الشأن الاقتصادي على الأقل، فقد شكلت على خلفية قرارات اتخذتها المؤسسات الفلسطينية، ابرزها المجلسين المركزي والوطني، بالبدء بعملية انفكاك اقتصادي تدريجي عن اقتصاد الاحتلال، ناهيك عن الفكر الذي يحمله اشتية نفسه في تسخير الاقتصاد في كفاح الشعب الفلسطيني لنيل حريته واستقلاله، الامر الذي بدا جليا في العديد من مؤلفاته، واذا ما اريد لهذا الطريق ان يكتمل، ولتقليل الضرر على الجانب الفلسطيني قدر الامكان وتعظيمه في الجانب الآخر قدر الامكان، فلا بد من اعادة هيكلة بعض القطاعات اولها قطاع الزراعة، الى جانب قطاع الطاقة.

في قطاع الزراعة، بات مطلوبا الحد من الزراعات الواسعة لأصناف محددة بهدف التصدير، كالتمور والزيتون والعنب والخيار على سبيل المثال، والتركيز على تغطية السوق المحلية بأكبر قدر ممكن من الاصناف، والاستغناء نهائيا عما يمكن الاستغناء عنه من منتجات مشتوردة من اسرائيل، ولو مؤقتا، وتوجيه الاسر لتشجيع زراعة الحيازات الصغيرة بأصناف تحتل وزنا مهما في سلة انفاق الاسرة الفلسطينية، وبحسبة بسيطة، فان اكثر من 45 صنفا من الخضروات يمكن زراعتها في حدائق المنازل، جزء منها يمكن زراعته بالطريقة البعلية، وحتى تربية الحيوانات والدواجن، سواء على صعيد الاسر والافراد او على صعيد الاستثمارات الكبيرة والشركات، وتشجيع اتباع طرق تخزين تقليدية كالتجفيف والعصر والمربيات لتحقيق الاستفادة القصوى من المواسم القصيرة، فـ"اقتصاد الصمود" يتطلب بالدرجة الاولى تقليل أثر الاجراءات الاسرائيلية على الحياة اليومية للأسر الى اقل حد ممكن، ولا بأس من استمرار الجهود على الصعيد الدولي للضغط لوقف عرقلة اسرائيل للشراكات التجارية والاقتصادية مع اطراف اخرى.

كما بات مطلوبا بناء منشآت تخزين لإطالة فترة مواسم المنتجات الحساسة، والحيلولة دون انهيار الاسعار.

ان هذا يعطي الحكومة والقيادة الفلسطينية هامشا اوسع في المناورة، ويزيد من قدرتها وطول نفسها في خوض المعارك مع الاحتلال، ويرفع من فرص تحقيق المكاسب في هذه المعارك.