تقرير: إيهاب الريماوي

كان ناصر ملتحي على غير العادة، سأل والدته وشقيقته اللتين كانتا في زيارة له عن رأيهما بها، شقيقته أخبرته أنه من دونها يبدو أجمل، أما والدته فلم تتمكن من حبس دموعها، وتركت سماعة الهاتف وأخفضت رأسها وأخذت تبكي، دهش، وبعد أن ألح على شقيقته، كشفت له عن فقدان والدته للبصر منذ عدة سنوات، يومها ابتل وجهه بالدموع وراح يردد لأمه: أنا السبب يا أمي، أنا إلّي عميتك...

اعتقل ناصر أبو سرور من مخيم عايدة شمال مدينة بيت لحم في الرابع من كانون الثاني/ يناير عام 1993، وصدر بحقه حكما بالسجن المؤبد، وحرم من رؤية والدته أكثر من 7 سنوات بحجة المنع الأمني، ووالده توفي في العام 1997.

أصيبت والدته (أم العبد) بجلطة ضربت عصب العين خلال السنوات التي منعت فيه من زيارته، ما أفقدها جزءا كبيرا من بصرها، وتقول: "جفت دموعي، الليالي كانت طويلة جدا، لم أتمكن من حبس دموعي أمام أي كان، لم أكن أتصور أن أحرم من رؤية ناصر كل هذه السنوات".

بعد أن رفع المنع الأمني عن والدته 77 عاما، أخفت عنه فقدانها للبصر لمدة أربع سنوات وأوصت أبناءها وبناتها بعدم إبلاغه بالأمر، لكن الأمر لم يستمر طويلا.

وتضيف: "يوصيني دائما بأن اعتني بنفسي، وفي كل زيارة يقول لي: "لا تموتي وتتركيني وحيدا، أنا صابر وصامد لأجلك، وفي الزيارة قبل الأخيرة منذ شهرين أبلغته أنني لن أموت، سألني كيف؟ قلت له: خبأت تحت السرير سيف وعندما يأتي ملك الموت سأقطع رقبته.. يومها ضحك وأضحك كل رفاقه الأسرى".

ناصر الذي كان يبلغ 24 عاما عندما اعتقاله كان يدرس تخصص أدب انجليزي في جامعة بيت لحم في سنته الرابعة، ما زالت والدته تحتفظ بكتبه الجامعية إلى اليوم، حتى أنها لم تغير مكانها، وفي كل صباح تنفض الغبار عنها، وتقبلها وتبللها بالدموع، وخلال سنوات أسره أنهى دراسة البكالوريوس والماجستير من جامعة القدس في تخصص العلوم السياسية.

وتتابع: "أول ما أنهض من النوم أذهب إلى غرفة ناصر، أتفقد كتبه، أقوم بتنظيفها، وأظل أردد هذا الكتاب لمسه ناصر، وهذه الصفحة قرأها، ولا اتمكن من حبس دموعي، وأخرج من الغرفة مبتلة بالدموع، هكذا أنا معتادة منذ اعتقاله، وحرصت أن تبقى هذه الكتب في مكانها، وألا يتم تغيير شكل الغرفة التي اعتاد عليها ناصر".

يقبع ناصر 49 عاما في سجن "هداريم" وكان من ضمن الدفعة الرابعة المتوقع الافراج عنهم عام 2014، التي أوقفتها سلطات الاحتلال الاسرائيلي في اللحظة الأخيرة ليتبدد حلم 25 أسيرا اعتقل جميعهم قبل اتفاق "أوسلو"، بالإفراج عنهم.

شقيقته وداد التي تواظب على زيارته مع والدته تقول عنه: "ناصر عندما نزوره ندخل عليه محبطين، لكن عندما نخرج نعود أكثر قوة، إنه يمنحنا المعنويات العالية، ودائما يقول لنا إن هذه حياته ولا يفكر أبدا خارج السجن سوى بأحوالنا نحن، وأن عليه أن يعيش هذه الحياة بمرها وشقاها، كما أنه يحرص دائما على مشاركتنا في كل المناسبات، حيث يطلب صورا للأفراح والأعراس، والأطفال، وحفلات التخرج، يريد أن يبقى بجانبنا حتى وإن كان خلف القضبان".

وتضيف: "عندما اقتربت الدفعة الرابعة من الأسرى الذين سيفرج عنهم، بدأت والدتي بتجهيز بيته، وأحضر له شقيقي من أميركا والذي جاء من هناك من أجل استقبال ناصر، العديد من المستلزمات، لكن اسرائيل ألغت هذه الدفعة، أصبنا بانتكاسة شديدة، أما ناصر كان لديه هذا الهاجس دائما، حيث لا يثق بالتعهدات الاسرائيلية ولم يعط نفسه أملا كبيرا بإتمام الدفعة، حتى أنه لم يحضر شيئا ولم يجمع أغراضه استعدادا للإفراج، الأمر لم يكن مفاجئا بالنسبة له".

لحظات الإفراج ماثلة دائما أمام أي أسير مهما كان حكمه، ولكن كيف إذا كان يواجه حكما بالسجن المؤبد، كحالة الأسير أبو سرور، حيث تقول شقيقته وداد: "ناصر لا يفكر كثيرا بلحظة الأفراج رغم أنه يدرك بأنه سينال الحرية يوما ما، أنه واقعي إلى أبعد الحدود ويدرك أن الأمر متوقف على إرادة الله، حتى أن محامية فلسطينية من داخل أراضي 48 عرضت الارتباط به إلا أنه رفض خشية أن تطول سنوات اعتقاله".

وعن حكايات الأسرى المحكومين بالسجن المؤبد يقول الأسير المحرر أحمد مصفر: "أبلغني المحامي بلائحة الاتهام الموجهة ضدي كانت بنودها تعني بأني سأقضي 15 عاما على الأقل في الأسر، ولما أبلغت رفاقي الأسرى نهض أسير محكوم بالمؤبد من برشه وعانقني وكأنه يهنئني، وقال لي عليك الآن وضع حقيبتك على الباب، لم يبق الكثير لك هنا.. يومها كان قد مضى على اعتقالي 6 أشهر فقط!".

ويضيف: "يحاول الأسير الذي يقضي حكما بالسجن المؤبد أن يمارس حياته في الأسر بطريقة مريحة وهادئة بعيدة عن الضغوطات النفسية إن كانت الداخلية أو الخارجية، لكن أمل الإفراج يبقى ماثلا أمامه، ويظل منبعا للمعنويات والدعم للأسرى".

ويتابع مصفر الذي أمضى 13 عاما في سجون الاحتلال: "يتمتع الأسير المؤبد بمعنويات عالية ويكون الأكثر مرحا بين رفاقه الأسرى، وفي بداية اعتقاله يحاول التأقلم على تقوية نفسيته وأن يبتعد عنه كل الأمور التي من الممكن أن تنغص حياته، والتي تصبح لاحقا جزءا من شخصيته، حيث تجده دائما مبتسما يوزع أمل الحرية على باقي الأسرى".

عندما دخل الأسير أحمد أبو عزام سجن نفحة عام 2003، كان يمّر بأزمة نفسية صعبة كونها تجربة الاعتقال الأولى له، استقبله الأسير محمد إبراهيم محمود الشهير باسم (أبو علي يطا)، حاول أن يمازحه وأن يخفف عنه، وقال له: "أنا هنا منذ 23 عاما، ولا يوجد سقف زمني للإفراج عني، لكني عندما أصحو كل صباح أوهم نفسي بأنه سيتم الإفراج عني في اليوم التالي، أما أنت لن تقضى نصف المدة التي قضيتها حتى الآن، اصنع لنفسك الراحة، فمن دونها لن تقدر أن تعيش شهرا واحدا في السجن".

يحتاج الأسير تحديدا أسرى المؤبدات عدة ساعات حتى يستوعب الأخبار التي سمعها في الزيارة حسب مصفر، حيث إن الأخبار التي تصله إذا كانت إيجابية فإنها ستكون إيجابية عليه، وإذا كانت سيئة فهي ستنعكس على نفسيته بالسلب، ولكن لسوء الحظ فإنه مع وجود الاحتلال فإن الأخبار الجيدة نادرة، وأحيانا يشعر الأسير أن الموت أفضل من سماعه أخبارا لا يستطيع هو التأثير فيها لا سلبا ولا إيجابا.

ويصف مصفر طبيعة يوم الأسير في السجن: "يوم الأسير كارثة بالبعد الانساني والقيمي، فبمجرد أن تقيد حريتك تكون قد دخلت في مرحلة صعبة جدا، وفي اليوم الواحد يعد الأسير يومه عدة مرات، يكون أطول مما هو في خارج السجن، لأن كل يوم ينتهي يعني بأنك تقترب أكثر من حريتك، فيحاول الأسير أن يخلق أي شيء في الأسر حتى يضيع الوقت، ومع أن نشاطاته مقيدة ومحصورة، فإنه ينشغل بالقراءة والرياضة، والزيارات بين الغرف، وحلقات النقاش، والنظافة، والفورات".

وفي حالة أسرى المؤبدات يقول مصفر: "يخلق هؤلاء الأسرى حالة من الأمل، وينشرون الإشاعات الإيجابية داخل السجون، مثل أن هناك صفقة قريبة للإفراج عنهم، لكن خلق هذه الإشاعات يعطي جرعة أمل كبيرة عند الأسرى، فالأسير المحكوم بالسجن المؤبد لا يعيش على أمل أنه سيموت في الأسر، بل على أمل الإفراج عنه".

ويبلغ عدد الأسرى الذين ما زالوا في سجون الاحتلال الاسرائيلي قبل اتفاق أوسلو، 25 أسيرا، فيما أن هناك نحو 570 أسيرا محكومين بالسجن المؤبد.