دخلت القاعة التي انتظم فيها جلوسا عدد متناثر من الحضور المتكون من الصحفيين والاعلاميين العاملين بوسائل الاعلام المختلفة، وذلك للقاء الحاسم والهام-كما أعلن عنه- مع دولة رئيس الوزراء، وجلّ الحضور في ترقب لما سيقوله، لا سيما وأن البلاد في حراك غاضب.

 

وما بين تبادل بعض الكلمات الخافتة، وبعض الابتسامات القليلة، كان الجمع بأغلبه ينتظر لقاء رئيس الوزراء الشهير بطوله الفارع.

 

 لقد كان طويل القامة، وظنّ أنه بقامته هذه قد يصل لقامة زعيم المملكة الأوحد الإمام فتحي ناصر الدنيا والدين وحامي حمى الحق والمؤمنين، ما لم يوافقه فيه المتظاهرون على ذلك. 

 

كانت المظاهرات قد علت منها الأصوات في شوارع المملكة ضد كل الطبقة السياسية رافضة بقاء الطبقة الحاكمة التي تستغل إرث مؤسسي المملكة، على قاعدة الإدعاء منهم بالمشي على آثارالسابقين، فيعمل الجُدد من رجال الدولة على استغلال البلاد والعباد وإرث المؤسسين ليظلوا هم أي القادة الجدد محمولين قسرا على أعناق الناس. 

 

كان الحضور يترقب وصول دولة رئيس الوزراء الشهير بقامته الفارعة وعبوسه الدائم وتجهّمه بسبب وبلا سبب، فهو كان لربما أطول رئيس وزراء ليس في بلادنا فقط بل في منطقتنا، وبالتأكيد هو الأطول في تاريخ بلادنا، وكان هذا الطول فيه من مساحات التندر من قبل المتظاهرين ضد الطبقة السياسية بالدولة الكثير.

 

المهم، نحن جالسون في القاعة بانتظاره، وعادة المسؤلين في بلادنا التأخر لإظهار المكانة، والعظمة الموهومة! وبعد مرور أكثر من ساعة إلا ربع، ونحن ننتظر فُتح الباب الذي أطلّ منه دولته ، وللمناسبة فلقد كانت فتحة الباب أطول من المعتاد ليستطيع دولته الدخول وعنقه مشرئب فلا يضطر لينحني كما يضطر عباد الله المؤمنين جميعا أن يحنوا الرقاب حين الدخول الى كنيسة المهد في مدينة بيت لحم هناك في فلسطين البعيدة عنا.

 

 نعم لقد زادوا من ارتفاع الباب ليدخل، وعنقه الجبارة مرتفعة، كما حال الزرافة وبالمناسبة فلقد كانت أحدى أهم تسميات المحتجين في البلد له هي تسميته بالوزير الزرافة، منذ كان وزيرا.

 

دخل دولة رئيس الوزراء الى القاعة مرفوقا بجيش من المرافقين الذين كانوا ملتفين حوله كالغمامة.

 

كان دولة رئيس الوزراء سيلقي علينا بيانا هامًا كما فهمنا نحن الصحفيين المجتمعين لسماع تصريحه أوكلمته.

 

 من الجدير ذكره أن دولة الزرافة، عفوا دولة رئيس الوزراء هو من مدمني الاعلام التقليدي من صحافة وتلفزة وإذاعة، وهو أيضا من مدمني وسائل التواصل الاجتماعي كما الحال مع الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، بمعنى أن صورته في كل مكان، وهو يظنها كما تهيىء له الخاصة أو البطانة الملتفة حوله أن صورته مطبوعة كأيقونة في قلب كل مواطن!

 

دخل دولة رئيس الوزراء الى القاعة ورفع يده اليمنى ملوحًا ....فلم يقف أحد! فهو قد ظن بدخوله أننا نحن معشر الصحفيين نشبه القطيع الذي يديره، وظن أننا سنقف للاستمتاع بنور جبينه الوضاء! وما فطن أننا جئنا للاستماع لكلمته أو إعلانه وكفى وننطلق الى أعمالنا، فلم يعجب هذا الفعل معاليه، فنظر الى الحضور نظرة غضب عارم، وهو مازال على الباب وقطّب جبينه أكثر مما هو عابس، ودلف الى مقعده على المسرح واجما بلا كلام!

 

لقد تحرج مقدم البرنامج الذي يتضمن فقرته الوحيدة أي كلمة رئيس الوزراء، أحجم عن الحديث والتقديم، لأن دولته جلس واجمًا ينظر الى الأرض!

 

 فذكرني هذا الموقف بفعلة الحجاج بن يوسف الثقفي في العراق-مع الفارق الكبير- حين قدم من المدينة الى الكوفة، معمّما وملثّما، وأغلق أبواب الجامع الذي سيخطب بالجماهير فيه، وأعلم الحراس بقطع رقبة كل من يخرج أثناء خطبته ثم أرخى عنقه مطرقا للأرض لفترة طالت حتى كاد أحد الحضور أن يحصوه بحصوة.

 

المهم أن دولة رئيس الوزراء كان واجمًا وعنقه الطويلة مدلاة الى الأسفل، وكأنه يبحث عن كلمات يقولها في هذا اليوم التاريخي الذي سيعلن فيه بيانا هاما كما فهمنا.

 

معاليه أو دولته كان صديقي، وكنت وإياه نعمل في وزارة واحدة، ولله وشهادة للتاريخ فلقد كان يتفوق علينا جميها بقدرته العجيبة على نسج العلاقات مع كل المختلفين، مهما تلقّى منهم الركلات على قفاه، أوالصفعات على خديه، ولا تتساءلوا كيف كان يتلقى الصفعات على خديه وهو بهذا الطول؟ إذ أنه كان يطأطيء الرأس طائعا مختارا ليتلقى الصفعات البهيجة!

 

 نعم، كان يتميز بقدرته العجيبة على الضحك والإضحاك، والتبسم حين تتجهم الوجوه، وبقدرته على إلقاء النكات حتى على نفسه وطوله الفارع أمام المسؤولين.

 

 حتى عندما يكون المسؤولون في قمة الأزمة، والتوتر والعصبية، يكون هو قادرا على أن ينتزع من أفواههم ضحكات ما كان يستطيعها غيره، وكثيرا ما لقي السباب والشتائم والطرد منهم لأسلوبه هذا، ولكن ردة فعله المتقبلة لدرجة استمراء الذِّلة والتلذذ بالمهانة كانت تغتصب من شاتميه من كبار المسؤلين ضحكات وقهقهات طويلة بطوله الفارع ، فها هو يتلقي القدح والشتم والركل والصفع بكل نفس خَذِلة، ظنوها طيبة وكانت غير ما ظنوا.

 

الطريقة الانتهازية التي كان يتعامل بها فرج الجرجاني مع المسئولين هي ما أهّله ليرتقي السلم درجات درجات، وليس درجة درجة، أي أنه ارتقاه قفزا أو طائرا، فلا هو بصاحب درجة علمية، ولا هو بالمثقف، ولا هو بمفكرأو مبدع، وما هو بكاتب حكيم، أو أديب أريب، أوصاحب قيم عالية.

 

وما أهمية كل ذلك في مملكة الإمام فتحي ناصر الدنيا والدين وحامي حمى الحق والمؤمنين!

 

فرج الجرجاني امتلك من صفات الانتهازية، والدونيّة ما أهّله ليصبح وزيرا ثم رئيس وزراء، لنكون نحن اليوم بمعيّة دولة رئيس الوزراء الأفخم!

 

في الفترة التي تجاورنا فيها معًا داخل الوزارة ، كان مكتبه بجوار مكتبي وكان يرسم في مخيلته أن يكون رئيس قسم ليس إلا، معتقدا أن هذا أسمى الأماني! وها هو يكسر السلّم ويصعد كالصاروخ.

 

هل هو نائم أم أنه يغمض عينيه ليرتاح قليلا؟ أم أنه مغمى عليه! لقد كانت تساؤلات الصحفيين بالقاعة مثارة نتيجة صمت دولة رئيس الوزراء الطويل، ونتيجة قلقهم وارتباطهم بمواعيد أخرى لا سيما وانهم متجهون بغالبهم لتغطية مسيرات الرفض في الشارع للطبقة السياسية الحاكمة فوق رقاب الناس والتي على رأسها الوزير الأول الزرافة فرج الجرجاني.

 

تقدم الي المنصة رجلٌ قصير القامة أنيق الهيئة علمت لاحقا أنه من مكتب دولة رئيس الوزراء وهمس بإذن دولته ما لم نتبيّنه، فرفع الرئيس رأسه ونهره، ماذا حصل ولماذا؟ لم نعلم ولربما كانوا يستحثونه على الكلام وهو يريد أن يعاقب الحضور، أو أنه كان يبحث عن الكلمات المناسبة، أو أنه فعل ذلك ليشد انتباه الحضور، لا سيما وأنهم لم يقفوا للترحيب بطول قامة سيادته أوللاستمتاع بالنظر الى بهاء وجهه.

 

بعد دقائق مرت علينا كالدهر، بين همهمات امتعاض واستنكار ونظرات انزعاج، ومحاولات للمغادرة كانت تُقابل بنظرات الحراس الواقفين على الباب الصارمة وبشدهم أيديهم على الأسلحة، فنتراجع.

 

بعد هذه الدقائق الدهرية وقف رئيس الوزراء الأفخم، وذهب الى المنصة ليتحدث...لم تكن المسافة من الكرسي الذي جلس عليه مطرقا برقبته الطويلة الى الأرض ومنصة الخطابة الا بضعة خطوات... كانت كافية لأن يتزحلق، ويقع من طوله ممددًا على المسرح! فأثار الضحك الكثير.

 

 أُخرِج رئيس الوزراء من باب جانبي على المسرح، وتم إلغاء المؤتمر الصحفي، وأُخليت القاعة فورًا، ومن ثم أعلنت حالة الطواريء بالمملكة، ولينتشر في أنحاء البلاد سيلٌ من النكات التي لم تجعل من دولته الا أضحوكة في كل بيت، وليس أيقونة في كل قلب .

 

كان القرار الأول الذي اتخذه بعد حادثة المنصة هو تحطيم المنصة، واستبدالها بمنصة الكترونية، وحبس مجموعة مفتخرة من المعارضين، واعتقال عدد من زملائنا الصحفيين، الذين وجهت لهم تهمة وضع الموانع والعراقيل في طريق تفكير رئيس الوزراء الأفخم.