لم يتبادرْ إلى الأذهانِ عند سماعِ نبأ سقوطِ الطائرةِ الأوكرانيّةِ في الثامن من كانون ثاني/يناير ٢٠٢٠ بعد إقلاعها من مطارِ طهرانَ بدقيقَتَيْنِ سوى شيءٌ واحدٌ: لقد دفعَ ركّابُ الطائرةِ الأبرياءُ حياتَهم ثمناً لحربٍ لا ناقةَ لهم فيها ولا جمل. لقد تردّدَ خبرُ الكارثةِ كخبرٍ ثانويٍّ في البدايةِ بسببِ طغيانِ الحدثِ الأهمِّ وهو القصفُ الصّاروخيُّ الإيرانيُّ للقواعدِ الأمريكيّةِ في العراقِ ردّاً على اغتيالِ قاسم سليماني. لم تُعر وكالاتُ الأنباءِ أهميّةً خاصّةً للكارثةٍ، فقد كانَ العالَمُ يحبسُ أنفاسَهُ في انتظارِ الردِّ الأمريكيِّ على الردِّ الإيرانيِّ، وبدأ الناسُ يجهزون أنفسَهم لحملةٍ من الرّدودِ المتواصلةِ حتى يكسرَ أحدُ الطرفَينِ إرادةَ الآخر. وجاءَ قرارُ الرئيسِ ترامب بإنهاءِ هذا الفصلِ من المواجهةٍ متوافقاً مع الصورةِ التي بدأت تترسّخُ ملامحُها مع انقشاعِ سحابةِ الدّخانِ التي رافقت القصفَ الإيرانيَّ، فعلى الرّغمِ من تسابُقِ الطرفين في إعطاءِ أسبابِ قلّةِ عدد الصحايا أو عدمَ وجودِ ضحايا بالمُطلقِ، إلا أنّهما سارعا إلى حصْرِ القصفِ في دائرةِ الردِّ المعنويِّ الذي لم يقصدْ أو عجزَ عن إلحاقِ خسائرَ بشريّةٍ بالجانبِ الأمريكيِّ. وكانت النتيجةَ كالعادةِ معجزةُ انتصارِ الطرفين، وبهذا أكملتْ دائرةُ التصعيدِ المحسوبِ دورَتها الحاليّةَ لتضافَ إلى نزاعٍ محسوبٍ عمرهُ أربعونَ عاماً. وضعت "الحربُ" أوزارَها وبدأ إحصاءُ الخسائرِ ليكتشفَ العالمُ أنَّ القواعدَ الأمريكيّةَ كانت آخرَ المتضرّرينَ وأنَّ من دفعَ الثّمنَ هم رعايا دولٍ عديدةٍ ممّن قضوا في كارثةِ الطائرةِ الأوكرانيّة.

 

لم تمضِ سوى ساعاتٍ قليلةٍ حتى بدأت الجولةُ الثالثةُ من المواجهةِ التي ظنَّ الصحفيونَ المتابعونَ لكلمةِ ترامب أنّها انتهت. لكنَّ أطرافَ المواجهةِ في الجولةِ الجديدةِ أكثرُ من سابقَتَيْها، إنّهم الآنَ دولُ وشعوبُ ضحايا كارثةِ الطائرةِ الأوكرانيّةِ في مواجهةِ مصداقيّةِ الرّوايةِ الإيرانيّةِ. لقد وقعت إيرانُ في الفخِّ الذي تنصبُهُ الحروبُ عادةً للمشاركينَ فيها، وهو فخُّ "الصُّدفةِ" التي هي في الحقيقةِ وصفٌ مخفَّفٌ للإهمالِ والفوضى والارتباكِ. فالنصرُ في الحربِ هو حليفُ الطرفِ الذي يعرفُ كيفَ يوظّفُ عناصرَ قوّتِهِ لخدمةِ أهدافِهِ، تماماً مثلما هو استغلالُ أخطاءِ الخصمِ وتهويلُ خطرِها ومحاصرةُ العدوِّ بسوءِ أفعالِهِ. لا معنى هنا للأخلاقِ والصّدقِ واحترامِ الخصْمِ، فالمسؤوليةُ عادةً هي نصيبُ الطرفِ الذي يعطي لعدوّهِ فرصةَ الظهورِ بمظهرِ نصيرِ الحقيقةِ مقابلَ سياسةِ التضليلِ وإخفاءِ الحقائق. لقد ابتزّ الغربُ عالَمَنا العربيَّ بعد حادثةِ سقوطِ الطائرة الأمريكيةِ في لوكربي، ولم يَنْتهِ مسلسلُ الابتزازِ إلا عندما قَبِل القذافي بدفعِ تعويضاتٍ وصلت قيمتُها ثلاثة مليار دولار لضحايا الطائرةِ معترفاً بمسؤوليّتِهِ أو محاولاً إخراجَ نظامِهِ من دائرةِ الحصارِ والاستهدافِ، لكنَّ ذلكَ لم يُنجِهِ من القتلِ ولم يَحمِ ليبيا من الغزوِ والتقسيمِ وبثِّ الفوضى في طولِ البلادِ وعرضِها.

 

خيراً فعلت إيرانُ حين سارعت إلى الاعترافِ بمسؤوليّتِها عن إسقاطِ الطّائرةِ، ولم يكن أحدٌ منذُ البدايةِ يتّهمُها بتعمّدِ استهدافِها، إذ أنّ الاتهامَ كانَ محصوراً بإسقاطِ الطائرةِ نتيجةً لخطأٍ بشريٍّ، وهو ما أقرّتْهُ إيرانُ اليوم. في هذهِ الكارثةِ ما يكفي من الدّلائلِ على الثغراتِ التي تعتري أنظمةَ الدّفاعِ الجويِّ الإيرانيِّ، إذْ أنَّ إسقاطَ طائرةٍ بعد إقلاعِها بدقيقَتينِ من مطارِ طهران يعطي صورةً عن حجمِ الخللِ في قدرةِ إيرانَ على حمايةِ نفسِها، ناهيكَ عن الافتقارِ إلى أدنى درجاتِ التنسيقِ بين أجهزةِ الدّولةِ المسؤولةِ عن الأمنِ والدّفاعِ في اللحظاتِ الحرجة. هذه الصّورةُ لا تبشّرُ بالخيرِ وتعطي أعداءَ إيرانَ مزيداً من الثّقةِ بقدرتِهم على مهاجمتِها دون أن يقابِلَهُم شيءٌ سوى الفوضى. وهذه إحدى نتائجِ تعدّدِ الأجهزةِ الأمنية واستقلالِ كلِّ جهازٍ عن الآخر، وهو نتاجُ الصلاحياتِ المطلقةِ التي يمتلكُها الحرسُ الثوريُّ والذي يجعلُ منهُ جيشاً مستقلّاً عن الجيشِ النظاميِّ. لم تكن الصّدفةُ إذن سوى حظِّ ونصيبِ المُتّكئينَ على الفوضى والمعتمدين على التهويلِ والخطابِ البعيدِ عن الواقعِ، وفي هذا درسٌ عسى أن تستفيدَ منهُ إيرانُ وتنتبهَ إلى وضعِها الدّاخليِّ وتنميةِ اقتصادِها وتقويةِ بُنيتِها في كل المجالاتِ بدلاً من تبديدِ ثرواتِ البلادِ لتغطيةِ نفقاتِ التدّخلِ في الشأنِ العربيِّ.

 

*عندما تتحكّمُ بكَ الفوضى فإنّكَ تمنحُ عدوّكَ فرصةَ الفوزِ عليكَ دونَ أن يفعلَ شيئاً سوى شَنْقِكَ بِحَبلٍ ينسجُهُ من أخطائك.

 

١٢-١-٢٠٢٠

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان