خصَّ اللهُ فلسطينَ بحلّةٍ من المزايا التي انفردتْ بها بينَ كلِّ الأوطانِ، ولا نقاشَ في أنَّ الميزةَ الأولى هي شعبُها الذي أُسنِدَ إليهِ شرَفُ الرّباطِ في هذهِ الأرضِ المبارَكةِ إلى يومِ الدّين. هذا الرّباطُ هو سرُّ العلاقةِ بينَ الفلسطينيِّ ووطَنِهِ، وهو ميزةٌ تجعلُ من مجرّدِ الثّباتِ في الأرضِ جُهداً مقاوِماً، فما بالُكَ حينَ يترافقُ الثّباتُ مع شرَفِ الدّفاعِ عن الوطنِ وحمايتِهِ بغضِّ النّظرِ عن الثّمنِ الذي يمكِنُ أنْ يدفَعَهُ المرابِطُ مقابلَ صيانةِ حقّهِ في وطنِ آبائهِ وأجدادِه؟ الآباءُ والأجدادُ في المفهومِ الفلسطينيِّ ليسوا أناساً طارئينَ أو قادمينَ من خلفِ البحارِ النّائيةِ، لكنّهم حكايةٌ طويلةٌ تمتدُّ فصولُها في التّاريخِ لتصلَ إلى بداياتِهِ التي حفرَها أوّلُ إنسانٍ وقفَ على ساقَيْهِ واستخدمَ عقْلَهُ وما وهبَهُ الله لهُ من عِلْمٍ ليَشتقَّ من أرضِ فلسطينَ قوتَهُ ويبني فيها دعائمَ ثقافتِهِ وبقائهِ. أجدادُنا هم الكنعانيّونَ واليبوسيّونَ، وهم القِدّيسونَ الذينَ رافقوا السيّدَ المسيحَ وانتشروا في الأرضِ مبشّرينَ برسالتِهِ، وأجدادُنا هم أولئكَ الذينَ شرّفَهم رسولُ اللهِ بإسرائهِ إلى القُدسِ وهو في طريقهِ إلى السّماء. هؤلاء هم الذين جعلوا فلسطينَ قادرةً على البقاءِ ونقشوا اسمها وشماً على جبين التّاريخِ بطريقةٍ تمزجُ بينَ عبادةِ اللهِ وعشقِ الأرضِ وإثراءِ الإنسانيّةِ بكلِّ ما تنعُمُ بهِ من قيَمِ الخيرِ والتّسامحِ والفداءِ والتضحية.

 

أرضُ فلسطينَ هي حالةٌ تاريخيّةٌ وثقافيّةٌ نادرةٌ، ولا يعني استمرارُنا في النضالِ من أجلِ انتزاعِ حرّيتنا أن نغفلَ عن مزايا الوطنِ التي يمكنُ لنا استخدامُها كرافدٍ من روافدِ الصّمودِ والمقاومةِ والاعتمادِ على الذّاتِ بعيداً عن ابتزازِ "المانحينَ" وقَرصَنةِ دولةِ الاحتلالِ والاستيطان. نعلمُ كيف يصرُّ بعضُ الظّلاميّينَ على تحريمِ وتجريمِ زيارةِ القُدسِ بصفتِها عاصمةَ الدّولةِ الفلسطينيّةِ الواقعةَ تحتَ الاحتلالِ، معلّلينَ "فتواهم" بأنَ زيارةَ القُدسِ هي اعترافٌ بالاحتلالِ، بينما يصْمتُون عندَ رفعِ الأعلامِ الإسرائيليّةِ ويتعامَونَ عن وجودِ القواعدِ الأمريكيّةِ على مرمى بصَرِهم ولا يعتبرونَ ذلكَ أمراً مشيناً ومخالفاً للدينِ والأخلاقِ والواجب. ولا يمكنُ فهمُ هذا الموقفِ إلا في إطارِ ترسيخِ القطيعةِ بينَ فلسطينَ ومحيطِها الطبيعيِّ، وهو هدفٌ يسعى الاحتلالُ إلى تحقيقهِ فلا يجدُ أحداً يهبُّ لمساعدتِهِ سوى بعضِ شيوخِ الفِتنةِ. يعلمُ القاصي والدّاني حجمَ التضييقِ والحصار ِالذي يتعرّضُ لهُ الوجودُ الفلسطينيُّ في القُدسِ، ولولا صلابةُ أهلِنا المقدسيّينَ وثباتُهم في مقاومةِ سياسةِ الاحتلالِ والتصدّي لجيشهِ ومستوطنيهِ لكانت معالمُ القُدسِ قد تغيّرت منذُ زمنٍ طويل. لكنَّ استمرارَ ثباتِ المقدسيّينَ بحاجةٍ إلى إسنادِهم ودعمِهم بشكلٍ مباشرٍ بدلاً من تبديدِ أموالِ الأمّةِ في عواصمِ الدّولِ التي تناصِبُ شعبَنا وامّتَنا العداءَ وتنشرُ الخرابَ والدّمارَ في بلدانِنا وتُغدقُ المساعداتِ على دولةِ الاحتلالِ والاستيطان.

 

"السياحةُ الدّينيّةُ" مفهومٌ جديدٌ يفرّقُ بينَ السياحةِ العاديّةِ وزيارةِ الأماكنِ المرتبطةِ بالأديانِ السّماويّةِ. وإذا كانَ الحجيجُ إلى مكّةَ المكرّمةِ فرضاً من فروضِ الإسلامِ ليسَ له طابعهُ "الاقتصاديُّ" المباشرُ، فإنّ زيارةَ الأماكنِ المقدّسةِ في فلسطينَ هي واجبٌ دينيٌّ وسياسيٌّ وأخلاقيٌّ. ولا يقلُّ عن ذلكَ أهميّةً الاعتناءُ بالأماكنِ المسيحيّةِ المقدّسةِ، فهي إضافةً إلى كونِها كنزاً وثروةً وطنيّةً ودينيّةً وثقافيّةً، عمودٌ من أعمدةِ الاقتصاد الوطنيِّ ووسيلةٌ من وسائلِ توفير الدّخلِ على المستوى الخاصِّ والعامِّ بما يساهمُ في تعزيزِ الاقتصادِ المقاوِمِ القادرِ على الانفكاكِ من شبكةِ العلاقاتِ التي تربطهُ باقتصادِ الاحتلال. وغنيٌّ عن القولِ أنّ زيارةَ الأماكنِ المقدّسةِ هي مناسبةٌ للتعرّفِ عن قربٍ على معاناةِ شعبنِا والاطّلاعِ على ما يمارسُهُ الاحتلالُ من بطشٍ وإرهابٍ واستيطانٍ. نعلمُ من شهاداتِ زوّارِ فلسطينَ كيف تترسّخُ في أذهانهِم صورةُ جدارِ الفصلِ العنصريِّ وبوّابةِ الدّخولِ إلى مدينةِ بيتَ لحم، ونعلمُ في المقابلِ كيفَ يحتفظُ السيّاحُ بصورةٍ مشرقةٍ عن شعبِنا المضيافِ الذي لم يُسجَّلْ عليه حادثةُ اعتداءٍ واحدةٌ على ضيوفِ فلسطين، وهذا نابعٌ من طبيعةِ هذا الشّعبِ ووعيهِ بأهميّةِ ما وضعَهُ اللهُ بينَ يديهِ من صروحِ الدّينِ وكنوزِ الحضارةِ والثّقافةِ الإنسانيّة.

 

*فلسطينُ قِبلةُ المؤمنينَ وضالّتُهم، ولا ثروةَ تفوقُ في قيمَتِها الأماكنَ التي ولِدَ فيها أو مرَّ منها أنبياءُ اللهِ ورُسُلُهُ، وهي هديّةُ اللهِ التي وهبَها لوطنِنا فلسطين، وواجبُنا هو الحفاظُ عليها والاستعانَةُ بها لتساعدَنا على الصّمودِ والبقاءِ حرّاساً للأرضِ ومقدّساتِها.

 

١٠-١-٢٠٢٠

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان