لمْ تهدأ بعدُ -ولنْ تهدأَ قريبًا- العاصفةُ التي أثارها نشرُ مؤسسةِ "أمان" لتقرير مؤسّستِها الأمّ المعنيةِ بدراسةِ مظاهر الفسادِ في العالمِ. وليس غريبًا أن يواجَهَ هذا التقريرُ بالصّدمةِ والرّفضِ والاستنكارِ، فهو يقوّضُ صورَتنا في المرآةِ وينسفُ ما نحاولُ أنْ نبنيهِ لأنفسِنا من قلاعِ الحصانةِ ضدَّ أمراضِ العصْرِ . وبعيدًا عن مصداقيةِ الأدواتِ التي استخدمها القائمونَ على الاستبيانِ والتي قادت إلى ما نعرفهُ من النتائجِ التي خلص إليها فإنَّ الواجبَ يستدعي وقفةً تقييميّةً لما وردَ فيهِ بعدَ أنْ عبّرنا عن رفضِنا الجمعيِ والفرديِّ لما أرادَت الدّراسةُ أنْ تسوّقهُ وترسّخهُ في أذهانِ الناسِ البسطاءِ.

 

الاستطلاعاتُ بمجملِها هي حصيلةُ رغبةِ المستَطلِعِ في إبرازِ مشكلةٍ ما والتركيزِ عليها. يعرفُ الأطبّاءُ جيدًا أنّ الكشفَ الطبيَّ يبدأُ بسؤالِ المريضِ عما يعانيه من أعراضٍ، ولا يمكنُ توجيهُ أسئلةٍ إيحائيّةٍ، فلو سألتَ مئةَ مريضٍ: هل يعانونَ من ألمٍ في البطنِ؟ سيجيبكَ نصفُهم بالإيجابِ ولن يكون بينهم فارقٌ إلا في تحديدِ شدّةِ الألمِ، وستختلفُ الحالةُ لو سألتَ العيّنةَ ذاتَها: هل تعاني من أيةِ أعراضٍ؟ هنا تنحصرُ الإجابةُ في الأعراضِ الحقيقيّةِ التي يعاني منها المرضى. ينطبقُ هذا المبدأُ على استطلاعاتِ الرأيِ العامِّ، فلو سألنا عيّنةً فلسطينيّةً مهما كانَ حجمُها وتركيبتُها عن الخطرِ الرئيسِ الذي يهدّدُ شعبَنا لأجابَتْكَ الأغلبيّةُ السّاحقةُ بأنَّ لهذا الخطرِ اسمًا واحدًا هو الاحتلالُ الاستيطانيُّ الاستعماريُّ الصهيونيُّ، لكنّكَ تستطيعُ بسؤالٍ خبيثٍ أنْ تشتّتَ آراءَ النّاسِ وتجعلَ كلَّ مجموعةٍ تعبِّرُ عن القلقِ والخوفِ من شيءٍ آخرَ. هذا يقودُنا إلى الموضوعِ الذي شكّلَ مصدرَ الاستفزازِ الأكبرَ في التقريرِ وهو الحديثُ عن "الرشوةِ الجنسيّةِ"، وهنا يجبُ التفريقُ بين الإجاباتِ التي تتحدّثُ عن تعرّضِ الشخصِ مباشرةً لخطرٍ كهذا وبين ما "سَمِعهُ" من آخرينَ حولَ تعرّضهم لنفسِ الخطر. وفي هذا السّياقِ لا بدَّ من الانتباهِ إلى الدّورِ المدمّرِ الذي تلعبهُ ظاهرةُ انتشارِ الشائعاتِ والكذبِ وخاصّةً في وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ، وهي ظاهرةٌ يسهلُ الوصولُ إلى ثمارها السامّةِ، بكلِّ ما يعنيهِ ذلكَ من ترسيخِ القناعةِ لدى الفئاتِ غيرِ المحصّنةِ لا فكريًّا ولا ثقافيًّا بأنَّ الفسادَ والانحلالَ الأخلاقيَّ ظاهرةٌ عامّةٌ شاملةٌ حتى لو لم يلمسْها الشخصُ المعنيُّ بيديه. 

 

الاستطلاعُ في العادةِ مسألةٌ شخصيّةٌ تحفظُ للمشاركِ الذي يتمُّ استطلاعُ رأيهِ السّريّةَ وحريّةَ إبداءِ الرأيِ وتسمحُ لهُ بالذّهابِ في النقدِ إلى أقصى حدودِهِ، وهي ليست تعبيرًا دقيقًا عنْ رأيِ الشّخصِ أو المجموعةِ المستهدفةِ بالبحثِ. ولو قُدّرَ لأحدٍ أن يجري استطلاعًا في فلسطينَ حول "الغولةِ" أو "الضّبعِ" الذي سلبَ عقلَ "فلانٍ" وجرّهُ إلى المغارةِ ليأكُلَهُ لكانت النتيجةُ مشابهةً لنتيجةِ السؤالِ "البريءِ" حولَ "التّحرّشِ الجنسيِّ" أو تزيدُ قليلاً. وفي مقابلِ هذا التّبسيطِ علينا أنْ نسألَ أنفسَنا: كيفَ كنّا سنجيبُ على السؤالِ المتعلّقِ بالتحرّشِ أو استفحالِ مظاهرِ الفسادِ والرّشوةِ الأخرى لو قُدّرَ لنا أنْ نكونَ بينَ "المحظوظينَ" الذين خضعوا للاستطلاعِ؟ هلْ نحنُ محصّنونَ ضدَّ مهاجمةِ أنفسِنا؟ هل نملكُ ما يكفي من الشّجاعةِ لنقولَ في العلَنِ ما نهمسُ بهِ عندما نعرفُ أنْ لا رقيبَ علينا؟ هل الخللُ في "ميزانِ الحرارةِ" أم في مناعةِ الجسمِ الذي لا يميّزُ بينَ الحمّى ودرجةِ الغليانِ التي تطغى على روحهِ بسببِ الحالةِ المرَضِيّةِ التي يحاولُ أعداؤنا إقناعَنا بأنّها قدرُنا المحتومُ؟ في كلِّ الأحوالِ لن يفيدَنا تكسيرُ ميزان الحرارةِ في شيءٍ، فإنْ كان فيه خللٌ يجبُ إصلاحُهُ، وإنْ كان الخللُ فينا فلنُسارِعْ إلى تدارُكِهِ قبلَ أنْ تتحوّلَ الحمّى إلى تسمّمٍ يعصفُ بالجسمِ كلّه.

 

*تقول الأسطورةُ الشعبيّةُ أنَّ رجلاً قد سلبَ الضّبعُ عقلَهُ فسارَ وراءهُ إلى المغارةِ اللعينةِ، حيثُ كان الضبعُ ينوي افتراسَهُ، إلّا أنَّ رأسَ الرَّجلِ قد اصطدمَ بسقفِ المغارةِ وسالَ الدّمُ من جبينِهِ فأفاقَ من سيطرةِ الضبعِ على عقلهِ ثُمَّ فرَّ هاربًا لينجو بنفسِهِ. لقد اصطدمَ رأسُنا بسقفِ مغارةِ "أمان".. فهل ندخلُ المغارةَ أم ننجو بأنفسِنا وبمشروعنا الوطنيِّ؟

 

١٤-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان