لا بد من الإشارة ابتداء إلى أن هذا المقال يعتمد بشكل رئيسي على كتابي الذي قمت بنشره مؤخراً باللغة الإنجليزية وصدر عن دار كامبردج للنشر في بريطانيا بعنوان:
Online Arbitration in Theory and in Practice: A Comparative Study of Cross-Border Commercial Transactions in Common Law and Civil Law Countries
ويطرح الموضوع المتناول إشكاليات عملية تتعلق بالتحكيم الإلكتروني كوسيلة بديلة عن القضاء لفض منازعات التجارة الدولية عموماً، والتجارة الإلكترونية خصوصاً، ملقياً الضوء على القوانين النموذجية والاتفاقيات الدولية الصادرة عن لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي "الأونسيترال" ذات العلاقة، أهمها القانون النموذجي للتحكيم بصيغته المعدلة لسنة 2006، والقانون النموذجي بشأن التجارة الإلكترونية لسنة 1996، والقانون النموذجي بشأن التواقيع الإلكترونية لسنة 2001، واتفاقية الأمم المتحدة بشأن التعاقد الإلكتروني لسنة 2005، واتفاقية الأمم المتحدة بشأن عقود البيع الدولي للبضائع لسنة 1980 "اتفاقية فيينا"، وكذلك اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية لسنة 1958 "اتفاقية نيويورك".
وتختلف القوانين الوطنية ذات العلاقة التي تنظم التجارة الإلكترونية والتحكيم في مختلف الدول النامية والليبرالية سواء تلك التي تتبع النظام القانوني الأنجلوسكسوني مثل بريطانيا وأميركا، أو ما يعرف باسم نظام السوابق القضائية، أو تلك التي تتبع النظام القانوني اللاتيني، أو ما يعرف باسم نظام القانون المكتوب، من ضمنها بعض القوانين العربية سارية المفعول في كل من دولة فلسطين والأردن ومصر والإمارات العربية، خصوصًا الاختلافات بين القوانين سارية المفعول في الولايات المتحدة الأميركية من جهة، والقوانين سارية المفعول في دول الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى.
كذلك، يختلف التطبيق القضائي لأحكام القوانين النموذجية والاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية ذات العلاقة، خصوصاً في ظل التباينات في التشريعات وفي الممارسة القضائية بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة، والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى.
ويمكن تنفيذ اتفاقات التحكيم الإلكترونية الدولية وأحكام التحكيم الإلكترونية الناشئة عن منازعات التجارة الدولية في المحاكم الوطنية تأسيساً على اتفاقية نيويورك لسنة 1958، على الرغم من عدم تضمن تلك الاتفاقية لأية أحكام مباشرة تتناول تنفيذ أحكام التحكيم الإلكترونية أو اتفاقات التحكيم الإلكترونية، نظرا لقدم الاتفاقية وعدم تعديل أحكامها منذ ذلك الوقت.
ويمكن إرجاع تلك الإمكانية إلى حكم المادة السابعة من اتفاقية نيويورك ذاتها التي تجيز للطرف الراغب في التنفيذ الاعتماد على نصوص قوانين وطنية أو اتفاقيات دولية أخرى أكثر ملاءمة ما يسهل عليه تنفيذ قرار التحكيم أو اتفاق التحكيم في المحاكم الوطنية للدول المتعاقدة في حالة صدوره بشكل إلكتروني، خصوصا أن معظم قوانين التحكيم في العالم تنظم وتعترف بصلاحية اتفاقات التحكيم الإلكترونية، وبعض القوانين كذلك لا تتطلب صدور قرار التحكيم في شكل معين كالقانون الإنجليزي والقانون السويسري، إضافة إلى إمكانية الاعتماد على قوانين نموذجية واتفاقيات دولية أخرى تنظم التحكيم والتجارة الإلكترونية مثل اتفاقية الأمم المتحدة بشأن التعاقد الإلكتروني لسنة 2005 والتي تنظم في المادة 20 مسألة تنفيذ اتفاقات التحكيم الإلكترونية عطفا على اتفاقية نيويورك سالفة الذكر.
ولا بد لنا أن نفرد حيزاً للمسائل المتعلقة بفض منازعات المستهلكين بواسطة التحكيم الإلكتروني، حيث يتعين توضيح مفهوم العقد الذي قد يبرم بين المستهلك والتاجر بواسطة الإنترنت كأحد عقود التجارة الإلكترونية، خصوصاً موضوعة صحة وقانونية شرط التحكيم الوارد في عقود المستهلكين الإلكترونية في الأنظمة القانونية المختلفة، ذلك أن شرط التحكيم الوارد في عقود المستهلكين العادية والإلكترونية يعد باطلاً وفقاً للتوجيهات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي كون أن المستهلك هو الطرف الأضعف، نظراً لانه لا يستطيع مناقشة شروط العقد الذي يعد عقد إذعان، في حين أن الشرط ذاته لا يعد كذلك في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تعتد المحاكم الأميركية بهذا الشرط وتعتبره صحيحاً ومنتجاً لآثاره القانونية.
ونخلص إلى أن التحكيم الإلكتروني كإحدى وسائل تسوية منازعات التجارة الإلكترونية، لا يعد وسيلة فعالة أو محبذة لتسوية المنازعات المتعلقة بعقود المستهلكين، خصوصاً إذا كان الاتفاق على التحكيم متزامناً مع إبرام العقد الأصلي وجزءً منه. في حين أنه يمكن للأطراف المتعاقدة، المستهلك والتاجر، الاتفاق على التحكيم لتسوية المنازعة الناشئة بينهما بعد إبرام العقد وفي وثيقة منفصلة عن العقد الأصلي. لذلك، لا بد من توفير حماية أكبر للمستهلكين عندما يتعاقدون بواسطة الإنترنت. ويشمل ذلك، من ضمن أمور أخرى، إجراء تعديلات تشريعية في مختلف الدول. إضافة إلى توفير الحماية القضائية في هذا النوع من عقود التجارة الإلكترونية.