لم يكن اختيارُ تاريخِ إصدارِ قرارِ مجلسِ النوّابِ الأمريكيِّ بخصوصِ التمسّكِ بحلِّ الدّولتينِ كحلٍّ وحيدٍ للصّراعِ الفلسطينيِّ-الإسرائيليِّ اختيارًا عشوائيًّا، فقد جاء في الذكرى الثانيةِ لإعلانِ ترامب عن أخطرِ خطواتِهِ ضدَّ شعبِنا الفلسطينيِّ عندما قرّرَ نقلَ السفارةِ الأمريكيّةِ من تل أبيب إلى القدسِ بعدَ أن اعترفَ بها عاصمةً لدولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ متنكّرًا لقواعدِ القانونِ الدّوليّ ولمبادئ العدالةِ والأخلاقِ، علاوةً على تضاربِ قرارِهِ وما تبعهُ من خطواتٍ لاحقةٍ مع مصلحةِ الولاياتِ المتّحدةِ وحتّى مع مصالحِ حليفهِ الإسرائيليّ. ولعلَّ قرارَ مجلسِ النّوابِ الأمريكيِّ بالأمسِ هو محاولةٌ لكبحِ جماحِ إدارةِ ترامب وحكومةِ المستوطنين ولجمِ توجّهاتِهم نحو ضمِّ أجزاءَ جديدةٍ من أرضِ الدّولةِ الفلسطينيّةِ المحتلّة، وهو بذلكَ محاولةٌ تهدفُ إلى إعادةِ الدّورِ الأمريكيِّ إلى ما كانَ عليهِ قبلَ وصولِ ترامب وتيّارِه المغامرِ الى منصبِ الرئاسةِ في دولةٍ يفتَرضُ أن تكونَ مثالاً لاحترامِ الشرعيةِ الدوليةِ والانتصارِ للمظلومينَ، لكنّها دأبتْ على استخدامِ قوّتِها وجبروتِها لمساندةِ المحتلّينَ والطّغاةِ في كلِّ بقاعِ الأرض.

 

لقد تمَّ تقديمُ مشروعِ القرارِ من قبَلِ عضو مجلسِ النوابِ "ألان لويِنتال"، وهذا دليلٌ على أنَّ أمريكيًّا يهوديَّ الديانةِ يمكنُ أن ينحازَ إلى منطقِ الحقِّ والعدلِ، بينما يوغلُ المتصهينونَ المسيحيونَ في تقديمِ آياتِ الولاءِ والطّاعةِ لأشدِّ التياراتِ الصهيونيةِ تطرُّفًا، ويرهنونَ سيادةَ أمريكا وقرارَها السياسيَّ وهيبَتَها الدوليَّة لمصالِحِ وأهواءِ نتانياهو. وعلى الرّغم من إصدارِ القرارِ بصيغتِهِ "غيرِ المُلزِمةِ" فإنّه يشكّلُ ظاهرةً جديدةً في سياسةِ مجلسِ النّوابِ الأمريكيِّ، فهو محاولةٌ للتدّخلِ في صُلبِ السياسةِ الخارجيّةِ ووضعَ ضوابطَ لها تمنعُها من الإنحدارِ إلى مستوياتٍ أدنى من التعارضِ مع الشرعيةِ الدوليةِ. لكنَّ الحافزَ الأكبرَ وراءَ إصدارِ القرارِ هو الحفاظُ على مصالحِ أمريكا وحمايةُ مستقبلِ الدّولةِ الصهيونيةِ من عبثِ الثنائي الفاسد ترامب-نتانياهو. ولا شكَّ أنّ الأغلبيةَ الديمقراطيةَ ومعها بعضُ العقلاءِ من الجمهوريينَ تدركُ أنّ مستقبلَ "إسرائيل" مرهونٌ بإقامةِ الدولةِ الفلسطينيّةِ. نعلمُ أنَّ قرارًا كهذا لن يغيّرَ موقفَ إدارةِ ترامب، وندركُ انَّ أشدَّ المتعاطفين مع شعبِنا لا يمكنهُ إلا أنْ يركّزَ على التزامِ أمريكا بحمايةِ أمنِ دولةِ الاحتلالِ، فهذهِ هي محدّداتُ السياسةِ التقليديّةِ الأمريكيّةِ وليس لدينا أدنى وهمٌ بحدوثِ تغييرٍ جذريٍّ يقلبُ أولويّاتِها. لكنّنا يجبُ أن نتعاملَ مع هذا القرارِ بصفتِهِ نقلةً إيجابيّةً في سياسةِ ممثّلي الشّعبِ الأمريكيّ، وهو تعبيرٌ عن انتقالِ عدوى الامتعاضِ من سياسةِ ترامب إلى الدّاخلِ الأمريكيِّ بعد أن عجزت هذه السياسةُ المغامِرةُ عن إقناعِ العالَمِ بجدواها.

 

علينا أن نشعرَ بالاعتزازِ بصمودِ شعبِنا ودعمهِ لموقفِ قيادتِهِ السياسيةِ في رفضها المطلَقِ للتّعاملِ مع المشروعِ الأمريكيِّ الذي ينسفُ حلَّ الدّولتينِ من أساسِه، ولولا هذا الصمودُ لما كانَ هناكَ أيُّ موقفٍ أمريكيٍّ متعارضٍ مع سياسةِ الإدارةِ الأمريكيّةِ الفاشلة. ولعلَّ هذا الموقفَ لمجلسِ النّوابِ الأمريكيِّ يضافُ إلى شجاعةِ شعبِنا وقيادتِهِ لكي يزيلَ "الغشاوةَ" عن أعينِ بعضِ العربِ الذين ما زالَ لديهم وهمٌ بإمكانيّةِ تمريرِ الخطّةِ الأمريكيّةِ سيّئةِ الصّيتِ. ولا نستثني من معسكرِ الذين أصيبوا بالعمى قيادةَ "حماس" التي تتوهّمُ أنّ "صفقةَ القرنِ" هي قدرُ شعبِنا المحتومُ وتتعاملُ معها كفرصةٍ للإبقاءِ على انقلابِها. فلا ترامبُ باقٍ ولا خطّتُه قدرنا.

 

*نحنُ على أعتابِ الانتخاباتِ الرئاسيّةِ في أمريكا، ودونَ أن نغرقَ في وهمِ التفاؤلِ بإحداثِ انقلابٍ جذريٍّ في سياسةِ الإمبراطوريّةِ الظالمةِ، فلا شكّ أن إزاحةَ ترامب وزمرتِهِ عن مقاليدِ الحكمِ والعبثِ بمصيرِ العالِم سيغيّرُ كثيرًا من المعادلاتِ في العالمِ كلّه. وأوّلُ الغيثِ قطْرُ قرارٍ غيرِ ملزِمٍ اتّخذَهُ مجلسُ النّوابِ الأمريكيِّ في ذكرى اعترافِ ترامب بالقدسِ عاصمةً لدولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ.

 

٧-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان