في وسط ظلمة دامسة توقفت بي السيارة أمام مكتب جريدة فلسطين الثورة في بيروت، كانت أجواء الحرب الأهلية والاعتداءات الاسرائيلية من الجو والبحر والبر هي المخيمة، كنت قادما من بغداد عبر سوريا وقلبي ينبض بقوة لهذه اللحظة التاريخية في حياتي، أن أكون في وسط الحدث الوطني الفلسطيني الأهم في تلك المرحلة.
في تلك الليلة من خريف عام 1977 قابلت للمرة الأولى أحمد عبد الرحمن، كان صوت المولد الكهربائي هو الطاغي. لكني وجدت نفسي أمام شاب في الثلاثينيات من عمره، كان يكتب بيد وباليد الأخرى يحمل سيجارة الروثمان، تم تعريفي إليه وتعريفه لي، أحمد عبد الرحمن رئيس التحرير. كنت أعرف الكثير عنه، عن كتاباته قبل أن اصبح في حضرته. قال وهو يبتسم: هل جئت لبيروت لتعمل معنا في فلسطين الثورة؟"، أجبت بصوت لا يخلو من الحماس، نعم جئت لهذا الهدف، قام من مكانه بكل بساطة وتواضع وأمسك بيدي وأخذني لغرفة التحرير، وقال: اختر لك طاولة، واختر في أي اختصاص تريد ان تكتب واهلا وسهلا بك، أنت الآن من أسرة تحرير فلسطين الثورة". نظرت من حولي إلى وجوه الشباب والشابات، الذين كانوا منهمكين بالكتابة، وفيما بعد تعرفت على أسمائهم وشخوصهم خالد العراقي، ابراهيم برهوم، سامي سرحان، حسن البطل، جواد البشيتي، أحمد سيف، علي حسين، مؤيد الراوي، طلال همداني وغيرهم، فلسطينيين لبنانيين أردنيين سوريين عراقيين، مكتب صغير يمثل الوحدة العربية بأروع تجلياتها، كل المضطهدين من أصحاب الرأي العرب كانت الثورة الفلسطينية مأواهم، ولم يسأل أحد منهم في أي يوم عن رأيه وانتمائه إلا انهم جميعا ثوريون مخلصون للمبادئ التي يؤمنون بها وكان هذا كافيا لأحمد عبد الرحمن وعرفات ليكونوا مناضلين في الثورة الفلسطينية.
تعرفت تدريجيا وعن قرب على أحمد، تعرفت إلى منهجه في العمل، كان اجتماع هيئة التحرير صباح كل اثنين، هو المؤشر، مستوى النقاش والفرصة المتاحة لأي شخص للتعبير عن موقفه بحرية تامة، كنا ننتقد أبو عمار والقيادة دون أي خوف أو حذر، كان يصر أن يحضر هذه الاجتماعات قيادات ومسؤولين من الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ومثقفين فلسطينيين وعرب. ومع مرور الوقت أصبحنا اكثر موضوعية ومهنية مدافعين اشداء بالقلم والكلمة عن فلسطين، عن القضية الفلسطينية، عن الوطنية الفلسطينية، معبرين عن الإرادة الوطنية الفلسطينية الحرة، لم نكن نمجد قائدا لشخصه، بل نمجد مواقفه بقدر ما هي وطنية، ونصنع منهم رموزا للوطنية الفلسطينية، ويكونون مرشدين للأجيال اللاحقة.
أحمد عبد الرحمن لا يؤمن بالتلقين وإصدار التعليمات والتوجيهات، كنا نتعلم بالممارسة وبالتجربة والنقاش الحر، لقد جعل من جريدة ومجلة فلسطين الثورة والاعلام الفلسطيني الموحد مدرسة إعلامية وطنية ملتزمة وديمقراطية، مدرسة بوصلتها فلسطين وكل القيم الانسانية.
أنا فخور بأني بدأت ونشأت في هذه المدرسة، وسأبقى مخلصا لما راكمته فيها من تجربة ومبادئ.