في نهايةِ القرنِ التاسعِ عشر اخترعَ الإنسانُ السيّارةَ التي تعملُ بمحرّكِ الاحتراقِ الدّاخليَّ، وسنُدركُ حجمَ الشّعورِ بالخطرِ الذي رافقَ ظهورَ هذا "الوحشِ الآليِّ" في الطُّرقاتِ العامّةِ لو علِمنا أنَّ قانونَ السّيرِ في بريطانيا مثلاً قد حدّدَ السُّرعةَ القصوى للمركباتِ الآليّةِ بثلاثةِ كيلومترات ومئتي متر في السّاعةِ، واشترطَ لإجازةِ حركتِها أنْ يمشي أمامَها رجلٌ يلّوحِ طوالَ الوقتِ برايةٍ حمراءَ مُحذّرًا المارّةَ من الخطرِ الدّاهِمِ الذي يتهدّدُهم. كما أنَّ غالبيةَ دُولِ أوروبا كانت تشترطُ لمنحِ أيِّ شخصٍ رخصةَ قيادةِ السيّارةِ أنْ يكونَ قد عمِلَ مسبقًا في مجالِ صيانةِ السيّاراتِ وتصليحِها. وقد تطوّرت القوانينُ وحاولت مواكبةَ التجديدِ المتواصلِ الذي خضعَت لهُ صناعةُ السيّاراتِ والتي حاولت الجمْعَ بينَ نقيضَينِ يصعبُ الجَمعُ بينهما، وهما الحفاظُ على سلامةِ سائقِ السيّارةِ وركّابِها والمارّةِ من جهةٍ، وتلبيةُ الطلبِ المتزايدِ على زيادةِ سرعتِها لتواكِبَ متطلباتِ العصرِ والحاجةَ إلى التنقّلِ السّريعِ من جهةٍ أخرى. وما زالت معضلةُ الجمْعِ بينَ هذينِ النقيضَينِ تشكّلُ الشُّغلَ الشّاغلَ للقائمينَ على تطويرِ صناعةِ السيّاراتِ والمختصّينَ بالقوانينِ التي تنظّمُ حركةَ المرورِ إضافةً إلى العاملينَ في قطاعِ التأمين الذي أناطت به الدّولُ المتقدّمةُ مسؤوليةَ حمايةِ المواطنِ من خطرِ مستخدمي السيّاراتِ عندما يكونُ هذا المواطنُ واحدًا من المشاةِ، كما تحميهِ منْ خطرِ تهوّرهِ وطيشِهِ واستهتارِهِ بحياتِهِ وحياةِ غيرهِ عندما يكونُ جالسًا خلفَ مقودِ السيّارةِ ويحوّلُها إلى قنبلةٍ متحرّكة.

 

الحفاظُ على سلامةِ المواطنِ في مجالِ حركةِ المركباتِ ووسائلِ النّقلِ يبدأُ بإعدادِ السّائقِ وتدريبِهِ حتّى يصبحَ قادرًا على فهْمِ جسامةِ المسؤوليّةِ التي تُثقِلُ ظهرَهُ كلّما جلسَ على مقعدِ قيادةِ مركبتِهِ، ورغمَ أهميّةِ الرّقابةِ على المركباتِ واخضاعها للفحصِ الدّوريِّ وكذلكَ الاهتمامِ بالطّرقِ والحفاظِ على مطابقِتِها للمعاييرِ والمواصفاتِ المتعارفِ عليها، رغم هذا وذاكَ يبقى الإنسانُ ضمانةَ تكاملِ العواملِ المختلفةِ وسرَّ نجاحِها أو فشلِها في الاستجابةِ لحاجةِ الناسِ العاديّينَ إلى الإحساسِ بالأمنِ والطمأنينةِ سواءً عندما يقومونِ بدورِ السائقِ أو بدورِ الإنسانِ الذي يستخدمُ الرّصيفَ أو ممرَّ المشاةِ بينَ ضفّتَيْ شارعٍ قد تكونُ فرحةُ النجاحِ باجتيازِهِ بسلامةٍ تفوقُ فرحةَ النّجاحِ في امتحانٍ مصيريّ. ولا يمكنُ لمنظومةِ العنايةِ بالسّلامةِ أنْ تعملَ بمعزلٍ عن الثّقافةِ العامّةِ التي يجبُ أنْ تنمّي روحَ التّعاونِ وتشجّعَ احترامَ أرواحِ العبادِ وممتلكاتِهم وعدمَ اعتبارِ الطّرقاتِ والشّوارعِ ملكيةً خاصّةً يمكنُ أنْ نُخضِعَها لمزاجِ الأنانيّةِ والتصرّفِ كمنْ لا يرى أحدًا ويصرُّ على أن يراهُ الآخرونَ ويخضعوا لأهوائهِ.

 

لا تحتلُّ فلسطينُ مركزَ الّصدارةِ من حيثُ عددِ ضحايا حوادثِ السّيرِ، لكنَّ ذلكَ لا يعني التقاعسَ عن فرضِ القانونِ من جهةٍ والالتزامِ بهِ من جهةٍ أخرى، وذلكَ بهدفِ التقليلِ ما أمكنَ من عددِ الذينَ يختطفُهم الموتُ فجأةً بفعلِ تهوّرِ سائقٍ أو تسرّعِ راجل. فنحنُ شعبٌ تحت الاحتلالِ يفقدُ من أبنائهِ خيرَتَهم على أيدي جنودِ المحتلِّ ومستوطنيهِ، وهذا يفرضُ علينا الحدَّ من هَولِ الفاجعةِ التي تحملُها خسارةُ أعزّاءَ آخرينَ في حوادثِ السّيرِ يضافونَ إلى قائمةِ الأحبّةِ الذينَ يقتنصُهم رصاصُ الأعداء.ولا بدَّ من أجلِ تحقيقِ ذلكَ أن نلتزمَ بالقوانينِ التي تنظّمُ حياتَنا وأنْ لا يكونَ الالتزامُ بربْطِ حزامِ السّلامةِ أو الحدِّ من السّرعةِ مقتصِرًا على لحظةِ استخدامِنا للطُّرقِ التي يتحكّمُ بها عدوّنا، وهو الذي يضربُ بعرضِ الحائطِ كلَّ قوانينِ الحقِّ والعدالةِ، فالأولى بنا أنْ نحترمَ قوانينَنا وحقَّ أبناءِ شعبِنا بالحياةِ والأمانِ. ويجبُ أن نعيَ أنَّ السرعةَ الزائدةَ هي أصلُ المصائبِ والسببُ الأوّلُ لحوادثِ السّيرِ، فهي لا تُبقي فرصةً للعقلِ ولردّةِ الفعلِ الكفيلةِ بتدارُكِ الأخطاءِ أو بالتّعامُلِ المُجدي مع أيِّ خللٍ قد يصيبُ مركبتَنا أو أيِّ خطأٍ يرتكبهُ شركاؤنا في حركةِ السّيرِ التي تُشبِهُ بتفاصيلِها خليّةَ نحلٍ متكاملةٍ، وواجبُنا أن لا نكونَ نحنُ مَصدرَ الخللِ في منظومةِ عملِ هذهِ الخليّة. 

 

*إذا أردْتَ الوصولَ إلى هَدفِكَ بسُرعةٍ ...تَمهّل!

 

٥-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان