لمْ يكرِّم اللهُ سبحانَهُ شيئًا مثلما كرّمَ العِلمَ واستخدامَ العقْلِ كميزانٍ دقيقٍ يميّزُ بينَ الغثِّ والسّمينِ. وقدْ ربطَ الخالِقُ بينَ العِلْمِ وخِشيةِ اللهِ حين قالَ: "إنّما يخشى اللهَ من عبادِهِ العلماءُ"، والخشيةُ مرتبةٌ أسمى من الخوفِ، فبينما يقتصِرُ الخوفُ على الشعورِ بالفَزعِ والرّهبةِ من شيءٍ لا ندرِكُ في الغالبِ كُنْهَهُ، فإنَّ الخِشيةَ هي تجنّبُ القيامِ بما يُغضبُ من نخشاهُ لأنّنا نعلمُ حقيقَتَهُ من جهةٍ، ويتملّكنا شعورٌ بالإعجابِ بهِ من جهةٍ أخرى. العِلمُ إذنْ هو بابُ الدّخولِ إلى خشيةِ اللهِ، وهي فضيلةٌ تستحقُّ أنْ يكرِّسَ لها الإنسانُ كلَّ طاقاتِ عقلهِ المعرفيّة.

 

ليسَ هناكَ أدنى إمكانيّةٍ للدخولِ إلى عالَمِ المعرفةِ والإلمامِ بتفاصيلِ العلومِ على اختلافِها دونَ وجودِ المُعلّمِ الذي ينقلُ لنا ما اكتسبَهُ من أدواتِ التعرّفِ على طبيعةِ الأشياءِ وإتقانِ حِرْفةِ إخضاعِها لمقاييسِ البحثِ والنّقدِ والتّمحيصِ المستَندِ إلى المَنطِق. من هنا كانَ المعلّمُ منذُ فجرِ تاريخِ المجتمعاتِ البشريّةِ المنظّمةِ حادي مسيرةِ تلكَ المجتمعاتِ ومحلَّ تقديرِها، فقد أدركَ الإنسانُ مبكّرًا أنّهُ بحاجةٍ إلى الموجِّهِ والقُدوةِ الذي يثقُ بهِ وبقدرتِهِ على إغنائهِ بما يلمُّ بهِ من علم. لقد أدركت المجتمعاتُ البشريةُ عبر تجربتِها الطويلةِ أنّ التعليمَ هو سرُّ تقدّمِها، من هنا كانَ الاهتمامُ بالمعلّمِ وإبرازُ دورِهِ الرّائدِ في إعدادِ الإنسانِ لكي يصبحَ قادراً على القيامِ بما يفيدُهُ ويزيدُ من قوّةِ المجتمعِ الذي ينتمي إليه.

 

ليسَ هناكَ شعبٌ في التّاريخِ المعاصِرِ يدركُ قيمةَ العِلْمِ كما يدركُها شعبُنا الفلسطينيُّ، فقد أصبحَ العِلمُ وطنَنا "البديلَ" الذي جعلنا منهُ محطّتنا المؤقّتةَ في طريقِ استعادةِ حريّةِ الوطنِ الأمِّ والعودةِ إلى ممارسةِ حياتِنا الطبيعيّةِ فوقَ أرضِه. ولا يوجدُ عائلةٌ فلسطينيّةٌ واحدةٌ تمكّنتْ من الإفلاتِ من براثنِ الفقْرِ إلا وكانَ الفضلُ الأوّلُ في ذلكَ بعدَ اللهِ لأحدِ أبنائها الذي مارسَ مهنةَ التّعليم. ولكي تكتملَ صورةُ تبجيلِ الفلسطينيِّ للعلْمِ والمعلّمِ تجدرُ الإشارةُ إلى قوافلِ المُدرّسين الفلسطينيّينَ الذينَ ساهموا في نقْلِ دُوَلٍ عربيّةٍ عديدةٍ إلى آفاقِ الحضارةِ والتقدّمِ بعدَ أنْ أعدُّوا أجيالاً من الشبابِ القادِرِ بما اكتسبَهُ من علْمٍ على الاستفادةِ من ثرواتِ بلادِهِ وتسخيرِها لبناءِ الدّولةِ العصريّةِ.

 

لا حاجة بنا إلى التّذكيرِ بالدّورِ الذي يقومُ بهِ المعلّمُ الفلسطينيُّ في الحفاظِ على الذاكرةِ والشخصيةِ الوطنيةِ وفي تحصينِ أبنائنا ضدَّ مرضِ الجهْلِ وتزويدِهم بالمعرفةِ الكافيةِ لإدراكِ ما يتعرّضُ له شعبُنا من مخاطرَ تهدّدُ مستقبلَهُ وطموحاتِهِ الوطنيّةَ، فليست الشّجاعة في جسارةِ القلبِ فقط، وإنما هي قبل كلِّ شيءٍ شجاعةُ العقْلِ المُدركِ لمستجدّاتِ العلومِ والقادرِ على تطويعِها لخدمةِ أهدافِهِ الشخصيةِ والعامّة. وإذا كانت هناكَ مساحةٌ مشرقةٌ في ذاكرةِ كلِّ واحدٍ منّا فهي المساحةُ التي تضمُّ بدفءٍ معلّمينا و"أساتذَتَنا" في صفوفِ الدّراسةِ الأولى، وحتّى تلكَ القلّةِ التي يرتبطُ اسمُها في ذاكرتِتنا بضربةِ عصا أو مسطرةٍ، فهي أيضًا جزءٌ من تربيتِنا التي نعتزُّ بها ونصفحُ عن هفواتِها. من هنا يجبُ التوقّفُ عن التعرّضِ للمعلّمِ مهما كانت المبرّراتُ التي يسوقها الخارجون عن أعرافِنا وتقاليدِنا، فالمدرّسُ ثروةٌ وطنيّةٌ جماعيّةُ لا يحقُّ لأحدٍ المساسُ بها، والمَدْرسةُ دارُ عِلمٍ يصلُ إلى مرتبةِ العبادةِ والقدسيّةِ، ولأنّها كذلكَ يجبُ احترامُها وعدمُ انتهاكِ حُرمتِها، تمامًا كما نحترمُ بيوتَ اللهِ ودُورَ عبادتِهِ من المساجدِ والكنائس. ولا مكانَ بينَنا لمنْ يتطاولُ على معلّمٍ أو ينتهِكُ حُرمةَ مَدرَسة!

 

*واجبُنا يقتضي رَفْعَ رايةِ العِلْمِ وإحاطةَ المعلّمِ بكلِّ ما يستحقّهُ من احترامٍ وتقديرٍ، وعلينا حمايةُ المعلّمِ الفلسطينيِّ من الممارساتِ العبثيّةِ الدخيلةِ على تراثِنا وتقاليدِنا. ولا نبالغُ حين نقولُ أنَّ علينا حمايَتَهُ من نَزَقِ وتهوّرِ قادةِ نقابةِ المعلّمينَ التي تتصرَّفُ أحيانًا وكأنّها تريدُ تشويهَ الصورةِ المُشرِقةِ التي يحظى بها المعلّمُ في قلوبِنا وعقولِنا.

 

٤-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان