إنَّ نتنياهو الذي يبحث الآن عن مخارج سياسية لحماية نفسه من تهم الفساد، والسرقات التي تلاحقه ليلاً نهاراً، وتعرقل طموحاته الرئاسية وجد ضالته اليوم في قرار وزير خارجية ترامب وهو بومبيو، وتمسَّك بهذا التصريح، الذي جاء هدية من ترامب لإنقاذ حليفه نتنياهو، واعتبر قرار واشنطن: "يعكس الحقيقة التاريخية التي تتمثَّل في أن اليهود ليسوا مستعمرين غرباء في الضفة الغربية. وأن واشنطن التي أعلنت عن شرعية المستوطنات الإسرائيلية تبنَّت اليوم سياسة مهمة تُصحح المسار التاريخي الخاطئ".
 إنَّ الولايات المتحدة تدرك تماماً أنها بهذا الموقف تتعارض مع القانون الدولي، ومع القرارات الدولية التي وُقِّعت في واشنطن، والتي قامت على أساسها التسوية السياسية، وخاصة القرارين 242 و338. وتتعارض كلياً مع مئات القرارات الصادرة عن الشرعية الدولية، وتحديداً قرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي وافقت عليه الولايات المتحدة، والذي يُحرِّم ويمنع الاستيطان والاستعمار في كافة الأراضي المحتلة. وهذا ثابت أيضاً في اتفاقية العام 1907، واتفاقية جنين 1949، التي تنص على حماية الممتلكات العامة، والخاصة بالمواطنين الواقعين تحت الاحتلال.
علماً أن هذا الموقف العدواني والعنصري يتناقض مع كافة المواقف السابقة للولايات المتحدة، التي كانت تقر بالحقوق الفلسطينية، بما في ذلك أن القدس عاصمة دولة فلسطين.
هذه التطورات الخطيرة والمصيرية، هي جزء لا يتجزأ من صفقة القرن الصهيونية التي كرَّسها ترامب الصهيوني، لترجمة ما تبقى من مكوّنات وعد بلفور الذي يستهدف الأمة العربية أساساً، وفي المقدمة الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض تاريخياً، لتكريس القاعدة الصهيونية الاستعمارية، الهادفة إلى تمزيق وحدة الأمة العربية، وتشتيت وتشريد الشعب الفلسطيني بقوة المجازر، والرعب، والقصف، والتدمير، والقتل العمد، والاعتقالات، والتصفيات الجسدية، وحرب الإبادة، والتهجير القسري، وانتهاك الحرمات، وتدنيس المقدسات... فماذا بعد؟! وماذا نحن فاعلون؟!
خاصة أن واشنطن وربيبتها، والأم الصهيونية العالمية التي ربَّتهما لتكونا عدوتين للبشرية، وللعدالة الإنسانية، وللشرعية القانونية والدولية، وللامة العربية وفي القلب منها القضية الفلسطينية، وأيقونتها القدس بكل مقدساتها الإسلامية والمسيحية، وخليل الرحمن المكَّبل بالتقسيم الزماني والمكاني.
نعم السؤال المطروح مجدداً، ودائماً، وأبداً... ماذا نحن فاعلون؟!
نحن لا نريد أن نحلِّق في الخيال، ولكننا سنقول ما يجب أن يُقال خاصة بعد تصريح بومبيو المشؤوم:
أولاً: الولايات المتحدة بسلوكها السياسي الراهن والعلني صنَّفت نفسها أنها عدوٌّ للشعب الفلسطيني، وأنها هي الحامية والحاضنة للمشروع الصهيوني الاستعماري، والاقتلاعي، والتهويدي.
ثانياً: إنَّ الكيان الصهيوني عملياً أصبح في حلٍّ من الاتفاقات السابقة التي تمَّ التوقيع عليها، وهو بممارساته الميدانية، والعسكرية، والأمنية، وبسلوكه اليومي الدموي والوحشي، وممارسة التعذيب للمعتقلين والمعتقلات خاصة المرضى، والتجرؤ على قصف وتدمير البيوت على رأس من فيها من الأطفال والنساء، دون أي اعتبار لأي اتفاقات سابقة أو حالية؟ فماذا بقي من الاتفاقات والتفاهمات؟!
ثالثاً: العالم بأسره عبَّر عن رأيه، وقال كلمته باللغة التي يستطيع تحمُّل تبعاتها، والجميع عبَّر عن رفضه وإداتنه ومخاوفه من السياسة الأميركية التي تحتضن الكيان الصهيوني، وهذه هي حدود التعاطف معنا والدعم لنا، وعلينا أن لا نتوقَّع اكثر من ذلك، لأنَّ لكل دولة حساباتها وظروفها.
رابعاً: إذاً كتلةُ اللهب أصبحت في حضننا، وعلينا أن نعرف كيف نبعدها، إن لم نستطع إطفاءَها، ولا أحد يعفينا من تحمُّل المسؤولية مهما كانت ثقيلة، فنحن أهل البيت، ونحن أصحاب الأرض، وجراحنا هي التي تنزف، وبيوتنا هي التي تُجرف وتُهدم، فالقرار قرارنا، ونحن من فجَّرنا الثورة، وقلنا ثورة حتى النصر.
خامساً: علينا أن نعترف بأن العدو الصهيوني المدعوم أميركياً لم يكن ليتجرأ علينا، وعلى حقوقنا، وعلى حرمة قضيتنا، وعلى مقدساتنا لو لم نسمح للانقسام اللعين الذي بدأ منذ انسحاب شارون ومستوطنيه وجيشه من قطاع غزة، حتى يكون القطاع ساحةً للصراع الداخلي، ولتكريس الانقسام بعد الانتخابات، وقطاع غزة ما زال ساحة صراع كما تركه شارون، وبعد مرور اكثر من اثنى عشر عاماً، ما زال قرار شارون هو الذي يخنق الساحة الفلسطينية، وهو الذي يتحكم بقرارها.
مات شارون، وشبع موتاً وسلَّم الأمانة إلى نتنياهو الذي بات اليوم يحكم ويرسم، ويقصف ويدمٍّر، ويقرِّر الحرب، والسلام، ويوقع الاتفاقات، وأصبح هو العرَّاب الذي سيقرِّر مصير قطاع غزة، ويقرِّر مع من يوقِّع الاتفاقات بعد أن جعل العرب عربين، أما الفلسطينيون فأصبحوا فرقاء يتسابقون من الذي سيوقِّع الاتفاقات، ومن هي الوساطات؟
أما منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فهي تنتظر متى يصحو الجميع، ويدركون بأن الانتصارات الفئوية والحزبية المحدودة لا تبني أوطاناً، ولا تهزم أعداءً، وإنما عندما يلتئم أهل البيت في بيتهم مع أُمهم، يكتمل العقدُ، ويتوحَّد الهدف، ويكونون على قلب رجل فلسطيني واحد، يعرفون ماذا يريدون، وسيجد نتنياهو نفسه منبوذاً ومطروداً، لأنَّ الدم الفلسطيني لا يصير ماءً، إنَّ الشعب الفلسطيني بقياداته التاريخية، وبكفاحه المتواصل، وخوضه أشرف المعارك وأخطرها كما حصل في الكرامة، وفي حصار بيروت، وفي الانتفاضة الأولى والثانية، وفي معركة النفق، هذا الشعب برموزه الوطنية استطاع أن يحتل المكانة المتقدمة في عالم الكفاح والجهاد، والنضال ضد الاحتلال وأعوان الاحتلال، وحلفائه. إنَّ الرئيس الرمز ياسر عرفات ورفاقه من القادة الذين خاضوا أهم الحروب والانتفاضات، وبعد أن غادروا تركوا الأمانة لمن جاء بعدهم، ورغم ثِقَل الأمانة، والتحديات الخانقة، إلاَّ أن الرئيس أبو مازن الثابت على ثوابت ياسر عرفات، والذي استطاع مع رفاق دربه أن يحاولوا اجتياز حقول الألغام، رغم كل المتاعب، إلاَّ أنَّ الصراع ما زال محتدماً، وقاسياً، وخطيراً، والخيارات معقدة بسبب المتغيرات الداخلية والخارجية، والتجربة أثبتت أنه لا مراهنة إلاَّ على الوحدة الوطنية الشاملة، لأنَّ فلسطين تجمعنا، والقدس توحِّدنا، وعلى هذه الأرضية نوحِّد قرارنا، ونصلِّب جبهتنا الداخلية، وعندها سترتعد فرائص نتنياهو، لأنَّ رهانهُ الحالي على استمرار الانقسام ورفض المصالحة سيزول، وسيجد نفسه وجهاً لوجه، ضد جبهة فلسطينية موحَّدة، قوامها هم قومٌ جبَّارون، ومؤمنون بأنهم حراسُ الأقصى، والأرض المباركة.
فهل تفعلها القيادة الفلسطينية- وهي أهل لها- من أجل أن تدمِّر أحلام نتنياهو وفريقه؟؟
الحاج رفعت شناعة
عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"
21-11-2019