بعيدًا عن المسكونينَ بهوَسِ حبِّ الذّاتِ ووَهْمِ امتلاكِ الحقيقةِ المُطْلقَةِ التي يجبُ فرضُها على الشّعبِ رغمَ إرادتهِ، وبعيدًا عن الخوّافينَ من اتّخاذِ أيِّ موقفٍ والمكتفينِ بالصّمتِ، فلا يعرفُ الشّعبُ رأيَهم بأيةِ قضيّةٍ.. بعيدًا عن هذينِ النّقيضَين يقفُ أصحابُ الخطابِ الشّعبويِّ، ولهؤلاءِ خطورةٌ لا تقلُّ عن الفئتينِ السّابقتَينِ، بل تفوقُهما في نتائجها الكارثيّةِ على مستوى الوعي العامِّ وعلى قدرةِ الشّعبِ على تطويرِ مواقفِهِ وعدمِ التقوقعِ في قوالبِ الأفكارِ السّهلةِ وقليلةِ التكلفةِ، لكنّها عديمةُ الجدوى وفاقدةٌ للقدرةِ على تغييِر الواقعِ.

 

أهمُّ ما يميّزُ الحركةَ الطّليعيّةَ هي مبادَرَتُها لإنجازِ الأهدافِ الصّعبةِ التي تعتبرُها غالبيّةُ الشعبِ أهدافًا يستحيلُ تنفيذُها، لكنَّ المبادرينَ إلى العملِ سرعانَ ما يبدأون باستقطابِ المناصرينَ لفكرتِهم ولأسلوبِ عملِهم، وذلكَ من خلالِ ما يقدّمونَهُ من مثالٍ إيجابيٍّ وقدوةٍ مبادِرَةٍ تقودُ الصفوفَ وتذلّلُ العقباتِ، وهذا ما يرسّخُ ثقةَ الشّعبِ بحركةِ "النّخبةِ" التي تقتصرُ في بداياتِها على ثلّةٍ من الشجعانِ لتزدادَ اتّساعًا وتأثيرًا وقدرةً على استقطابِ المناصرينَ لفكرتِها والمشاركينَ في مسيرتِها حتّى تصبحَ حالةً جماهيريّة عامّةً، رغمَ ما تضعُهُ أمامَ شعبِها منْ خططٍ وأهدافٍ تحتاجُ إلى الجهدِ والتضحيةِ والمثابرةِ على العملِ وعدمِ الرّكونِ إلى الاتكاليّةِ والاكتفاءِ بدورِ المتفرّجِ أو النّاقد. هكذا تقومُ الحركةُ الثوريّةُ بمهمةِ تطويرِ فكرِ الشعب عبرَ الممارسةِ اليوميّةِ وقيادةِ النضالِ، ولا تكتفي بالخضوعِ لما يسمّى بالرأيِ العامِّ الذي يأخذُ أحياناً شكلَ "غريزةِ القطيعِ" المشغولِ بذاتِهِ دونَ أن يسعى لفعلِ شيءٍ سوى الحفاظِ على "الوضعِ الرّاهنِ"، معَ ما يرافقُ ذلكَ من تجريدِ الذّاتِ من نِعمةِ الاستعدادِ لبذلِ الجهدِ المطلوبِ للانتقالِ بهذا الوضعِ إلى حالةٍ أرقى.

 

الخطابُ الشّعبويُّ هو مخاطبةُ الجمهورِ بما يُحبُّ أن يَسمعَهُ وليس بما يجبُ أنْ يُقالَ لهُ، وهو بذلكَ تعبيرٌ صارخٌ عن النفاقِ واعترافٌ من صاحبِ الخطابِ بالعجزِ عن المبادرةِ لإحداثِ التغييرِ الإيجابيِّ في صفوفِ جمهورِه، وبدلاً من ذلكَ فهو يكرّسُ المفاهيمَ السائدةَ ويجعلُها من المحرّماتِ التي لا يجوزُ المساسُ بها. وينشطُ أصحابُ هذا الخطابِ عادةً في المحطّاتِ الصّعبةِ والمنعطفاتِ التي تتطلّبُ وضوحًا في المواقفِ واستقراءً سليمًا لحجمِ المخاطِرِ ولمصلحةِ الشّعبِ، فنراهُم يصطفّونَ في خندقٍ واحدٍ معَ المُحبَطينَ واليائسينَ، بلْ إنّهم يتطوّعونَ إلى قيادةِ تيّارِ اليأسِ وتكريسِهِ ليصبحَ ثقافةً عامّةً تشلُّ القدرةَ الجماعيّةَ على الفِعلِ وتروّجُ للكُفرِ بكلِّ شيءٍ. ورغمَ أنَّ الشّعبَويّينَ يتظاهرونَ باحترامِهم للشعبِ ودفاعِهم عن مصالحهِ، فإنَّهم في حقيقةِ الأمرِ يمثّلونَ نقيضَ هذهِ المصالحِ، لأنّهم بخطابِهم الذي يتملّقُ لجمهورِهم إنّما يساهمونَ في شلِّ قدرةِ هذا الجمهورِ على العملِ ويدفعونَهُ إلى الاكتفاءِ بالتفسيرِ السطحيِّ للأحداثِ والرّكونِ إلى الحلولِ السهلةِ، وهذا خطرٌ يهدّدُ حاضرَ الشّعبِ ويبدّدُ أحلامَهُ بالمستقبَل. 

 

*لا تخاطِب الناسَ بما يرغبونَ بسماعِهِ، ولكن كُنْ مبادرًا بقولِ الحقيقةِ لهُم مهما كانت صعبةً ومُكلِفةً، ومَن يكتفي بالتمّلقِ للشّعبِ على حسابِ الحقيقةِ فهو شريكٌ في تكريسِ ثقافةِ اليأسِ والعجز والتّثاقُلِ إلى الأرض.

 

٢٠-١١-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان