يتعاظمُ الدّورُ التخريبيُّ لصناعةِ التهريبِ التي تديرُها وتسيطرُ عليها عصاباتُ الجريمةِ المنظّمةِ، وكلّما زادت الحاجةُ إلى سلعةٍ معيّنةٍ أو ازدادَ الفارِقُ في سعرِها بينَ بلدٍ وآخرَ كلّما ارتفعت وتيرةُ تهريبِها. ذاتُ القاعدةِ تنطبقُ على تهريبِ الأفرادِ، فمن جهةٍ يزدادُ ضغطُ القمعِ والمجاعةِ التي تصيبُ شعوبَ الدّولِ الفقيرةِ مع ما ينتجُ عن ذلكَ من موجاتِ الهجرةِ الجماعيّةِ الباحثةِ عن المأوى ولقمةِ العَيشِ في الدّولِ الغنيّةِ المستقرّةِ، ومن جهةٍ أخرى تغلقُ الأخيرةُ أبوابَها أمامَ المهاجرينَ وتبني الجدرانَ التي تسدُّ في وجوهِهم طرُقَ النجاةِ من غولِ الحربِ والفقرِ وتَغوّلِ الحكّام. في ظلِّ هذهِ المعادلةِ الظالِمةِ ينشطُ المهرّبون الذين يتاجرونَ بحياةِ المهاجرينَ ويجازفونَ بها وهم يعبرونَ بهم إلى المجهولِ في قواربَ واهيةٍ تشقُّ البحارَ وداخلَ الشاحناتِ التي تفتقرُ إلى أدنى شروطِ السّلامةِ، وفي الحالتينِ تكونُ نهايةُ المجازفةِ في أغلبِ الأحيانِ نهايةً مأساويّةً. هذا هو الثّمنُ الذي يدفعهُ مواطنو الدّولِ الفقيرةِ التي جعلَ منها الغربُ المتسلّطُ ساحةَ حربٍ أو حقلاً للتجاربِ الاقتصاديّةِ التي لا يستفيدُ منها سوى الشركاتِ الغربيّةِ ورموزِ الفسادِ في تلكَ الدّولِ، وهو وضعٌ يمثّلُ وصفةً سهلةً للحروبِ الأهليةِ والمجاعاتِ وما يتبعُها من موجاتِ المهاجرينَ الباحثينَ عن مستقبلٍ أفضلَ لهم ولعائلاتِهم بعدَ أن عجزت أوطانُهم عن القيامِ بهذا الدّور.

 

الحروبُ والفقرُ هما نتيجةٌ مباشرةٌ من نتائج ظاهرةِ العَوْلَمةِ التي أطلقت العنانَ للغزوِ الاقتصاديِّ المتستّرِ بشعارِ حرّيةِ تنقّلِ المنتجاتِ ورأسِ المالِ، وهو ما تضمنُهُ الاتفاقيّاتُ الدوليةُ التي تحكُمُ التجارةَ الدّوليةَ وتتحكّمُ بمصيرِ الدّولِ الفقيرةِ وترهنُهُ لرغبةِ وأهواءِ الدولِ الغنيّةِ ومزاجِ شركاتِها الاحتكاريةِ التي تسيطرُ على كلِّ نواحي الاقتصادِ بما في ذلكَ قطاعُ الإعلامِ والاتصالاتِ والخدماتِ والتكنولوجيا المتقدمة. ولا يقتصرُ الخطرُ المباشرُ الذي يهدّدُ الدّولَ الفقيرةَ على الجانبِ الاقتصاديِّ رغمَ أهميّتهِ، لكنّ احتكارَ الغربِ لسوقِ الإعلامِ والاتصالاتِ تحديداً أصبحَ يشكلُ خطراً متزايداً على هويّةِ الشعوبِ وثقافتِها وتماسُكِ بنيانِها الاجتماعيِّ نتيجةً لما تمارسُهُ الدّولُ المتقدّمةُ اقتصادياً من "تهريبٍ" ممنهجٍ لقوالبَ فكريّةٍ وأنماطِ سلوكٍ تتعارضُ بمعظمِها مع تاريخِ وحضارةِ وثقافةِ الشّعوبِ التي تستهدفُها. وليسَ من بابِ الصُّدفةِ أنْ يستخدمَ "الغزاةُ الثّقافيّون" تَوْقَ الشعوبِ إلى الحريّةِ ليغلّفوا به بضاعتَهم المسمومةَ تحتَ مسمّياتٍ مختلفةٍ بحجّةِ المساعدةِ على التّخلّصِ من التخلّفِ والفقرِ. ويستهدفُ "الغزاةُ" كلَّ نواحي الحياةِ بشكلٍ يصعبُ حَصرُهُ في هذه العُجالَةِ، لذلكَ لا بدَّ من التركيزِ على أهمِّ مجالاتِ ذلكَ الغزوِ وأخطَرِها.

 

المجالُ الأوَلُ هو تعميمُ المفهومِ الغربيِّ للدّيمقراطيةِ وإجبارُ الشعوبِ الأخرى على الالتزامِ الحرفيِّ بهذا المفهومِ الذي لا يتطابقُ في روحهِ وأدواتِهِ مع ثقافةِ تلكَ الشعوبِ وطريقةِ إدارَتِها لشؤونِها الداخليةِ بما يحافظُ على تماسُكِها الاجتماعيِّ المرتكزِ إلى مجموعةٍ من القيمِ التي صمدت لمئاتِ أو حتى لآلافِ السنين. هذا لا يعني إنكارَ وجودِ قيمٍ شاملةٍ تنطبقُ على كلّ المجتمعاتِ الإنسانيّةِ، لكنّ ما يجبُ الحفاظُ عليهِ واحترامُهُ هو شبكةُ العلاقاتِ الاجتماعيّةِ التي أثبتت جدواها عبرَ التجربةِ، ومنها على سبيلِ المثالِ مسألةُ التّرابطِ الأُسَريِّ الذي يميّزُ مجتمعاتِنا العربيةَ، هذا الترابطُ الذي يجري استهدافَهُ الآنَ بشكلٍ مباشرٍ بحجةِ كونهِ عاملاً من عواملِ تقييدِ حريّةِ الأفرادِ وعائقاً أمامَ الممارسةِ السّليمةِ للديمقراطيّة.

 

المجالُ الثّاني هو ذلكَ الذي يخصُّ دورَ المرأةِ، وهو مجالٌ يقعُ ضمنَ دائرةِ الاهتمامِ والاستهدافِ المباشرِ لمهربّي "الأفكارِ الجديدةِ". وهنا أيضاً لا بدَّ من التأكيدِ على شموليّةِ العديدِ من العواملِ التي تنطبقُ على بني البشرِ بغضِّ النّظرِ عن لونِهم أو معتقداتِهم أو جنسِهم، كما أنّنا يجبُ أن لا ندفنَ رؤوسَنا في الرّمالِ وندّعي بأنَّ المرأةَ تتساوى في بلدانِنا في حقوقِها وواجباتِها مع الرّجلِ، لكنَّ خطورةَ الاستهدافِ الذي تتعرّضُ له مجتمعاتُنا عبر التركيزِ على موضوع المرأةِ تكمنُ في محاولاتِ اصطناعِ محورٍ آخرَ للتقسيمِ المصطَنعِ بينَ أبناءِ المجتمعِ الواحدِ، وهو تقسيمٌ يتجاهلُ حقيقةَ أنَّ الظُّلمَ والقهرَ يستهدفُ المواطنَ رجلاً كانَ أم امرأةً، وهو ظلمٌ وقهرٌ يأخذُ في الحالةِ الفلسطينيّة شكلَ الاحتلالِ والاستيطان الإسرائيلي الذي "يساوي" في القتلِ بين المرأةِ والرّجلِ والطفلِ والشيخِ. ليس هذا مدعاةً لتأجيلِ حصولِ المرأةِ على حقوقِها حتى يتمَّ التخلّصُ من الاحتلال، لكنّهُ دعوةٌ لكَشفِ زيفِ ونفاقِ منْ يدّعون الانحيازَ إلى المرأةِ وهم في الحقيقةِ منحازونَ للمحتلّينَ الذينَ يسلبونَ شعبَنا حرّيتَهُ وحقّهُ بالحياة.

 

المجالُ الثالثُ هو استهدافُ المنظومةِ الأخلاقيّةِ التي تميّزُ الأمّةَ عن غيرِها، وهي منظومةٌ يقومُ الدِّينُ بدورٍ رئيسٍ في تكوينِها ورعايتِها والحفاظِ عليها. ونعني بالدّينِ تعاليمَ الدياناتِ السّماويةِ التي تحضُّ على فعلِ الخيرِ وكفِّ الأذى ونصرةِ المظلومِ ورفضِ الذلِّ والاستبدادِ وحبِّ الوطَنِ والدّفاعِ عنهُ وقتَ الحاجةِ وغيرِها من القيمِ النبيلةِ التي تشكّلُ النواةَ الصّلبَةَ للشخصيةِ الثقافيةِ، بعيداً عن بعضِ العاداتِ الباليةِ التي لا تمتُّ بصلةٍ لأيِّ دينٍ أو معتقَد. وهنا لا بدَّ من الإشارةِ إلى أهميّةِ دورِ الأسرةِ أوّلاً ثمَّ مناهجِ التعليمِ ثانياً في الحفاظِ على الشخصيةِ الوطنيّةِ وترسيخِ مفهومِ الانتماءِ إلى الشعبِ والوطنِ، وهو دورٌ يدركُ أعداؤنا أهميّتهُ المحوريّةَ في صياغةِ الوعيِ بالذاتِ بكلِّ أبعادِ هذا الوعيِ، ولذلكَ نراهمُ يستهدفونَ الأسرةَ ويحرّضونَ الشّبابَ على التّمرّدِ عليها والاكتفاءِ بالعلاقاتِ الوهميةِ عبرَ وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيِّ، مثلما يستهدفونَ مناهجَ التّعليمِ ويحاولونَ تحريفَ مضمونِها لحرْفِها عن الهدفِ الذي يجبُ أن تكرَّسَ من أجلِهِ، وهو الحفاظُ على الهويّةِ والانتماءِ ووحدةِ الهدفِ الذي يُجمعُ عليهِ الشّعبُ ويعملُ على إنجازِه كمجموعةٍ متكاملِةٍ مترابِطةٍ.

 

*تهريبُ الأفكارِ المسمومةِ والغريبةِ عن ثقافتِنا هو عملٌ عدوانيٌّ وغزوٌ ثقافيٌّ وفكريٌّ يسعى إلى تجريدِ الأمّةِ من تاريخِها ويهدّدُ مستقبلَها، وإذا تقاعست الأمّةُ عن التصدّي لهُ فسيؤدي حتماً إلى هَدْمِ أسوارِ مناعَتِها ضدَّ كلِّ أشكالِ الغزو الأخرى.

 

١٨-١١-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان