يعرفُ شعبُنا المسلّحُ بتجاربَ طويلةٍ مع سلسلةِ الاعتداءاتِ الإسرائيليةِ على غزّةَ أنَّ نهايةَ العدوانِ الأخيرِ لن تختلفَ عن كلِّ ما سبقهُ من حلقاتِ تلكَ السلسلةِ، ليسَ لأنَّ لأحدٍ قدرةً خارقةً على الإلمامِ بعالَمِ الغيبِ، ولكن لأنَّ القوانينَ التي تَحكمُ المواجهةَ المرافقةَ لكلّ الاعتداءاتِ ما زالت ثابتةً لا تتبدّلُ رغمَ الوصولِ إلى نتائجَ متشابهةٍ كلَّ مرة. يمكنُ القولُ أنَّ الثّابتَ الأهمَّ للمواجهاتِ غيرِ المتكافئةِ معِ جيشِ الاحتلالِ هو هذا العددُ الكبيرُ من الشّهداءِ والمصابينَ في صفوفِ الناسِ البسطاءِ إضافةً إلى الحجمِ الهائلِ من التدميرِ الذي تتعرّضُ لهُ الممتلكاتُ الخاصّةُ والمرافقُ العامّةُ، وهو في العادةِ تدميرٌ يضافُ إلى ما نتجَ عن الاعتداءاتِ السّابقةِ ويراكمُ معاناةِ شعبِنا في غزّةَ الذي لم يُكتبْ لهُ الخروجُ من مواجهةٍ إلّا ليدخلَ في أخرى.

 

بعيدًا عن تقييمِنا للطبيعةِ العدوانيةِ التي شكّلتْ أساسَ نشأةِ دولةِ الاحتلالِ ورافقتْها منذُ تأسيسِها، فإنَّ ما يهمّنا هنا هو الوقوفُ أمامَ العقليةِ التي يتعاملُ بها القائمونَ على أمورِ غزّةَ بحُكمِ الأمرِ الواقعِ الذي يفرضهُ انقلابُ "حماس" والسّاكتونَ على هذا الانقلابِ أو الذينَ يعملونَ تحتَ مظلّتهِ ويوفّرونَ لهُ دعمًا لا يستحقُّه. فمن أخطرِ الظواهرِ التي يجبُ التصدّي لها هي حالةُ الاستهتارِ بأرواحِ المدنيّينَ واعتبارُ الشّهداءِ والمصابينَ مجرّدَ أرقامٍ لا يتمُّ التوقّفُ عندَ مدلولاتِها وتأثيرِها النفسيِّ والاجتماعيّ، ليس بسببِ عدمِ استعدادِ شعبنِا للتضحيةِ، فهذا ما لا يمكنُ اتهامُ شعبِ الجبّارينَ به، وإنّما بسببِ حالةِ عدمِ التوازنِ بين ما يتكبّدُهُ الشعبُ من خسائرَ وبينَ ما تُلحقُهُ المواجهةُ بالجانبِ المعتدي والمتطاولِ على شعبِنا. فمن المعيبِ للكرامةِ الوطنيّة أنْ يتمَّ التّعايشُ مع حالةٍ مَرضِيّةٍ تفترضُ أنَّ الهلعَ والذّعرَ وإغلاقَ المدارسِ وغيرَ ذلكَ من "خسائرِ" العدوِّ يمكنُ مقارنتُهُ مع معاناةِ شعبِنا ومعَ ما يتكبّدهُ من تضحياتٍ جسامٍ، والأدهى من ذلكَ أنْ تكون هذهِ التضحياتُ "ثمنًا عاديًّا" لما يتعرّضُ لهُ الجانبُ المعتدي من آثارٍ نفسيّةٍ! وكأنّنا نُسلّمِ بصحّةِ ادعاءاتِ عدوّنا العنصريِّ بأنَّ سقوطَ قتيلٍ في صفوفهِ يمثّلُ كارثةً كبرى تستحقُّ أن يدفعَ شعبُنا مقابِلها عشرات الشهداء!

 

لا تكفُّ "حماس" وبقيةُ التنظيماتِ المسلّحةِ في غزّةَ عن التّباهي بقدرتِها العسكريّةِ وبشبكةِ الأنفاقِ التي تحمي مقاتليها وتسهّلُ حركتَهم تحتَ الأرضِ، وهي قدراتٌ يتمُّ تطويرها على حسابِ الخدماتِ اليوميةِ للمواطنِ الصّامدِ الذي يفتقرُ إلى أبسطِ مقوّماتِ الحياةِ الآمنةِ الكريمةِ. وأمامَ هذا الاعتدادِ بالقوّةِ العسكريةِ لا بدّ لتلكَ الفصائلِ أن تشعرَ بالخجلِ لأنّها في الوقتِ الذي تحصّنُ مقاتليها في الأنفاقِ فإنها تتركُ المدنيّينَ تحتَ رحمةِ آلةِ القتلِ الإسرائيليةِ التي تتعمّدُ ايقاعَ أكبرِ الخسائرِ في صفوف المدنيّينَ العزّلِ. ومن حقِّ المواطنِ أن يتساءلَ: لماذا تحفرونَ الأنفاقَ لأنفسِكمْ ولا تقومونَ ببناءِ الملاجئ للناسِ العاديّينَ؟ فمن يدّعي أنّهُ يجهّزُ نفسَهُ طوالَ الوقتِ لمواجهةِ العدوِّ لا يمكنُ أن يكونَ صادقًا في ادّعائهِ عندما يتقاعسُ عن توفيرِ الحدِّ الأدنى من الحمايةِ للمدنيّين حتّى لا يكونوا وقودَ كل المواجهاتِ ولقمةً سائغةً تلتهمُها نزعةُ القتلِ والإرهابِ التي يدمنُ عليها جيشُ العدوِّ وقادتهُ السياسيّونَ قبلَ العسكريّين. لقد آنَ الأوانُ لوضعِ قرارِ المواجهةِ مع العدوِّ تحت المسؤوليّةِ الوطنيّةِ الشّاملةِ، فلا يجوزُ أن يبقى هذا القرارُ فصائليًّا عشوائيًا لأنَّ من يتحملُ تبعاتِ المواجهةِ هو الشعبُ بكلِّ فئاتهِ، أمّا التنظيماتُ فإنّها سرعانَ ما تحتفلُ "بالنّصرِ" المزعومِ.

 

*آنَ الأوانُ لكي تدرِكَ الفصائلُ المسلّحةُ في غزةَ أنَّ مسيراتِ العودةِ ذاتِ الطابعِ الجماهيريِّ والشعبيِّ، كما هي المقاومةُ الشّعبيّةُ في الجزءِ الشّماليِّ من الوطنِ، وفي القُدسِ على وجهِ التحديدِ، هي أشكالٌ نضاليّةٌ أشدُّ تأثيرًا وأقلُّ كلفةً وأكثرُ إيلامًا للعدوِّ من الوقوعِ في مصيدةِ المواجهةِ العسكريةِ التقليديّةِ التي تشكّلُ خيارًا إسرائيليًّا سهلاً ومريحًا وغير مُكلفٍ.

 

١٦-١١-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان