لم تشهدْ بقعةٌ أخرى في العالم بحجمِ غزّةَ ما تعرّضتْ لهُ هذه القطعةُ العزيزةُ من فلسطينَ من عدوانٍ وقتلٍ وتدميرٍ وحصارٍ، ولا يكتفي العالمُ بالصّمتِ لكنّهُ يشاركُ في قتْلِ شعبِنا عندما يساوي بين معاناتِهِ من العدوانِ الإسرائيليِّ المتواصِلِ وبينَ صرخاتِ الألمِ الفلسطينيِّ، دونَ أن يخجَلَ من المقارنةِ بين ترسانةِ الحربِ الإسرائيليّةِ المسخّرةِ لنَشرِ الموتِ في القطاعِ المُحاصَرِ وبينَ حقِّ المظلومين بردِّ الأذى عن أنفسِهم بما يملكونَ من وسائلِ الدّفاعِ المشروعِ عن النّفسِ. وفي كلِّ مرّةٍ تلجأُ فيها دولةُ الاحتلالِ إلى تجديدِ عدوانِها يتسابقُ الساسةُ المنافقونَ في مطالبةِ "جميعِ الأطرافِ" بضبطِ النّفْسِ، وكأنَّ المعركةَ تدورُ بينَ جيشَيْنِ لدولتَيْن بسببِ خلافٍ حدوديٍّ، بينما يدركُ القاصي والدّاني أنّ للحروبِ المتتاليةِ ضدَّ غزّةَ صفةٌ ثابتةٌ وهي أنّها حروبٌ عدوانيّةٌ تشنّها دولةُ مارقةٌ ضدَّ منطقةٍ تخضعُ للاحتلالِ والحصارِ. أمّا المطالبةُ بضبطِ النّفسِ فهي من النّاحيةِ العمليةِ دعوةٌ لشعبِنا إلى الخضوعِ لمنطقِ العدوانِ والتّنازلِ عن حقّهِ المشروعِ في الدفاعِ عن نفسهِ بالوسائلِ التي يكفلُها له القانونُ الدّوليُّ، وهذا انحيازٌ سافرٌ للعدوانِ وتشجيعٌ لدولةِ الاحتلالِ على الاستمرارِ في سياستِها العدوانيّةِ ضدَّ شعبِنا.

 

عندما تُقْدِمُ آلةُ القتلِ الإسرائيليّةُ على اغتيالِ القادةِ الميدانيّينَ لحركةِ الجهادِ الإسلاميِّ فهي تُدرِكُ مسبَقًا أنّها تُعلنُ بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ من التّصعيدِ، لأنّها تعلمُ بحُكْمِ التّجربةِ أنَّ الردَّ على الاغتيالاتِ لا يكونُ بالسّكوتِ عليها، وهي بذلكَ تتحملُّ مسؤوليةَ التّصعيدِ وتبعاتِه. لكنَّ ما لا يجبُ أنْ يغيبَ عن بالِ أحدٍ أنَّ القيادةَ الإسرائيليّةَ السياسيّةَ والعسكريّةَ لا يمكنُ أنْ تُقدِمَ على جريمةٍ كهذهِ لمجرّدِ شغفِها بالقتلِ -وهي بلا شكٍّ صفةٌ أصيلةٌ للقيادةِ الإسرائيليّةِ- ولا لرغبتِها في خوضِ مغامرةٍ غيرِ محسوبةِ العواقبِ. علينا أنْ نعيَ أنّ من اتخذوا قرارَ الاغتيالِ مستعدّونَ للتعاملِ مع ردّةِ الفعلِ الفلسطينيّةِ إذا جاءتْ حسبَ النّمطِ الذي اعتادتْ عليهِ دولةُ الاحتلالِ خلالَ تجربةِ الاعتداءاتِ السّابقةِ. هذا الوعيُ باستعدادِ العدوِّ للتعاملِ مع أيِّ ردٍّ "تقليديٍّ" على جريمةِ الاغتيالِ يجبُ أن يوضعَ في حساباتِ كلِّ القوى الفلسطينيّةِ التي تعرفُ أيضًا وبحُكمِ التّجربةِ أنّ للعدوِّ دومًا أهدافًا أبعدَ من مجرّدِ اغتيالِ قائدٍ ميدانيٍّ مهما كانَ دورُه. ولا نبالِغُ لو قلنا إنَّ القضاءَ على بوادِرِ التّوافقِ على إجراءِ الانتخاباتِ في فلسطينَ هو واحدٌ من الأهدافِ التي تسعى حكومةُ العدوِّ إلى تحقيقِها من خلالِ جريمتِها الجديدةِ، لأنّها تدركُ أنَّ إنهاءَ الانقسامِ وتثبيتَ دعائمِ الشّرعيةِ الوطنيّةِ هو أنجعُ وسيلةٍ لتصليبِ الموقفِ الوطنيِّ حولَ المطالبِ الشّرعيةِ لشعبِنا، وفي مقدّمتِها إنهاءُ حصارِ غزّةَ ووضعُ حدٍّ لمعاناةِ أهلِها.

 

يجبُ وضعُ مصلحةِ الوطنِ والمواطِنِ قبلَ مصلحةِ التّنظيماتِ والقوى الوطنيةِ على اختلافِها وتعدُّدِها، فقد سبقَ للعدوِّ أنْ أقدمَ على جرائمَ لا حصرَ لها عندما استهدفَ بالاغتيالِ المكشوفِ قافلةً طويلةً من القادةِ الكبارِ ومن كلِّ الفصائلِ والقوى، ورغمَ ذلكَ لم ينجح لا في كسْرِ إرادةِ شعبِنا ولا في ثَنْيِ الأجيالِ المتعاقبةِ عن الانحيازِ لخيارِ الصّمودِ والمقاومةِ والثّباتِ على وصايا الشّهداء. لا يعيبُ شعبَنا تفوّقُ العدوِّ وقدرتُهُ على إلحاقِ الخسائرِ بنا وبشكلٍ لا يقارَنُ بما لدينا من إمكانيّاتٍ متواضعةٍ للردِّ، ولو كانَ ميزانُ القوى يميلُ لصالِحنا لانتهينا من الاحتلال وشرّهِ. من هنا يجبُ الانتباهُ إلى ضررِ الخطابِ الذي يلجأُ إلى التضخيمِ والمبالغةِ بإمكانيّاتِ شعبِنا، فالمبالغةُ بحجمِ الردِّ على جرائمِ الاحتلالِ لا يخدمُ أحدًا. وهنا لا بدَّ من الإقلاعِ عن ثقافةِ الاستهانةِ بأرواحِ شعبِنا، فليسَ من الإنصافِ ولا من الشجاعةِ أنْ نساوي بينَ أعدادِ شهدائنا وبينَ حالات الهلعِ في صفوفِ المستوطنينَ. وليسَ القصدُ هنا التقليلُ من أثرِ الردِّ المحسوبِ على جرائم الاحتلالِ وإنما وضعُ ذلك في إطارِهِ الصّحيحِ كتعبيرٍ عن حقِّ شعبِنا بالمقاومةِ بما لديهِ من إمكانيّاتٍ دون أن يخدمَ ذلكَ الرّوايةَ الإسرائيليّةَ التي يتمُّ تسويقُها للعالمِ والتي تصوّرُ كيانَ الاحتلالِ كضحيّةٍ لهجماتٍ فتّاكةٍ من "جارَتهِ" غزّة.

 

*لتتضافرْ كلُّ الجهودِ لوقفِ العدوانِ الإسرائيليِّ ضدَّ شعبِنا المحاصَرِ في غزّة. هذا هو الهدفُ الملحُّ الآن، لكنْ يجبُ ألّا يغيبَ عن أذهانِنا أنَّ الانتصارَ لغزّةَ ومساندةَ أهلِنا الصامدينَ فيها لنْ يتحقّقَ إلّا بإنهاءِ الانقسامِ واستعادةِ الوحدةِ كأداةٍ فعّالةٍ لمواصلةِ مسيرتنا نحو إنجازِ أهدافِنا الوطنيّة.

 

١٣-١١-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان