أعادني خيال العالم الجليل أبي الفداء عماد الدّين بن كثير (1302 م الى 1373م) ومؤلّفه الكبير "تفسير القرآن العظيم" وفي الفقرات الّتي روى فيها قصّة خلق القطّ في سفينة نوح من أنف الأسد عندما عطس، أعادني الى الميثولوجيا اليّونانيّة الغنيّة ذات الخيال الجامح الّتي خلقت الهًا لكلّ ظاهرة طبيعيّة ووضعت قصّة مثيرة لكلّ زهرة وشجرة، وذكّرني بحكاية العوسجة البلهاء ( شجيرة العُلّيق) الّتي نبتت قرب جذع النّخلة فتجاهلها الفلّاح وتركها حيّةُ لانشغاله في حقله، ونمت فرحةَ بأفنانها وأوراقها، مغرورةً باخضرارها، ولكنّها لاحظت ذات صباح أنّ النّخلة تعلو وتبسق في الفضاء في حين أنّ أفنانها تمتّدّ فوق التّراب، فشعرت بأسى وألم، ومرّ النّهار وهي مهمومة.
وجاء المساء وطال الليل ولم تعرف النّوم فسألت ربّة النّبات أن تهبها ما وهبت النّخلة من علوّ وسموّ يكاد يطول السّماء!
وفي صباح الغدّ تفتّحت أزهار العوسجة زرقاء مثل لون السّماء، فشعرت بالرّاحة ودعت النّحلات والفراشات ليرقصن في ساحتها.
ومرّت أيّام وتلتها أيّام والنّخلة تعلو وتبسق والعوسجة ملتصقة بالتّراب عند قدمي النّخلة، فزاد همّها وغمّها، وخاطبت ربّة النّبات ثانيةً قائلةً: لا علوًّا أعطيتني، ولا سموًّا وهبتني بل أبقيتني لصيقةً لقدميّ النّخلة. لا أُنكِر أنّك وهبتني زهرًا أزرقَ سريعَ الذّبول بينما أعطيت النّخلة زهرًا ينعقد ثمرًا ويصير بلحًا ورطبًا يقدّمونه على الموائد العامرة، كما يصنعون منه شرابًا لأفراحهم الزّاهرة. أرجوكِ رأفةً ورحمةً بي، أعطني ما أعطيت النّخلة! عوّضيني عن العلوّ والسّموّ والثّمر اللذيذ بثمرٍ يجاري ثمرها ويفوق عنه!
أشرق الصّباح وغرّدت الطّيور وسقسقت العصافير وابتسم النّدى مُرّحبًا بشعاع الشّمس وانعقدت أزهار العوسجة ثمرًا أخضر كأنّه ثمر النّخلة.
نظرت العوسجة الى جارتها النّخلة وفرحت حينما شاهدت ثمر النّخلة الأخضر في حجم ثمرها وربّما أصغر قليلا فصارت تغنّي وترقص وتقول: أنا العوسجة الزّرقاء، لي لون السّماء، ثمري ذهبٌ أخضر، له رائحة المِسك والعنبر!
سمعها الجُعل فطار فرحًا وصار يعدو في ظلّها.
ومرّت الأيّام والعوسجة تراقب ثمر النّخلة الّذي صار بلحًا فرطبًا، وتسابق النّاس لقطفه وتناوله والثّناء على طعمه الحلو اللذيذ في حين اصفّر ثمرها ولم يقترب منه انسانٌ أو طيرٌ أو حيوانٌ.
غضبت العوسجة وبدأت تشتم النّخلة فسمعتها الأشجار وأشفقت عليها. وزادت شتائم العوسجة وغلى الحقد في أغصانها فاصفرّت أوراقها وذبلت أفنانها.
وصل الفلّاح الى الحقل فشاهد العوسجة ذابلةً صفراء والدّيدان تطلّ من ثمارها فتناول فأسه واجتّثها!