كما هو دائمًا مذ كان طفلاً دافقًا متوهّجًا بالحياة، مولعاً بالمفاجآت، يرفض السكينة والثبات، الحركة سره في البقاء، لا ينام كما الهواء، عيونه مفتوحة في الليل والنهار، وإن أغمضت لحظة، تنهض قرون الاستشعار لديه. يفاجئ الموت بالبقاء، كما طائر الفينيق ينهض من الرماد. يركب الريح العاصف بحساب، مقامر حتى الشهادة دفاعا عن الشعب والغايات، مسالم كماء نبع منساب، لا يأمن جانب الأعداء، قلق حتى النخاع، يدور في فلك الأحداث متحفزا وثابا ليدرأ الأخطار. مناورا محنكا مع الأصدقاء والأعداء.

 

محلق في الفضاء، مضى إلى اقصى القطبين بحثا عن السلام، غاص عميقا في البحار والمحيطات، وقاد دفته إلى كل ميناء ليؤكد ان شعبه شعب الأنبياء، وزهرة المدائن عاصمة فلسطين شاء المستعمرون العابرون، ام لم يشاءوا. كوفيته أمست هوية وجواز سفر لشعبه الملاحق في المطارات والموانئ، وباتت وشما وشعارا وأيقونة كل الثوار في العالم.

 

ياسر عرفات سيد الشهداء، الرمز الراحل، قائد الشعب العربي الفلسطيني مضى إلى الخلود في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2004. فارق الحياة رغما عنه، وغيلة وغدرا من الأعداء والجبناء. لكنه لم يمت، نعم ابو عمار لم يمت، ومن راقب نبض الشعب، ولا اقول نبض ابناء حركته (فتح) يرى بأم عينه، ويلمس كل صباح ومساء كم تتدفق ذكراه عطرة في كل الأرجاء، ليس فقط عندما تحل ذكرى ميلاده او رحيله المبكر، أو اي حدث وتاريخ في مطلق محطة وطنية دشنها، أو مهرها بشخصه وعنفوانه، انما على مدار الأيام والسنين. وضريحه الجاثم في ارض المقاطعة (مقر الرئاسة) في محافظة رام الله والبيرة يشهد على ذلك.

 

ويزداد تعاظم حضوره الطاغي في كل مناسبة تخصه. كما نعيش هذه الأيام ذكرى رحيله الخامسة عشرة، حيث تُصر حركة حماس الانقلابية على اغتياله كل عام. وتسعى بخبث الإخوان المسلمين وحقدهم إلى طعن جسد وروح عرفات في كل ثانية، لانها تخشاه في موته، كما كانت تخشاه في حياته، مع انه رحمة الله عليه، أحياها من العدم، وضخ في عروقها الدم، لاعتقاده انهم "اصحاب مشروع مقاومة"، وتناسى في لجة الحدث من هم. لا سيما انه خبرهم الف مرة مذ كان عضوا في الجماعة، وبعد ان تمرد مع إخوانه قادة حركة فتح على خيار التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في خمسينيات القرن الماضي، واسس حركته "فتح" قائدة المشروع الوطني حتى اليوم.

 

هذه الأيام مع بدء الاستعدادات لإحياء ذكرى رحيل القائد الرمز عرفات، ورغم أن حركة الانقلاب اعطت موافقتها لتنظيم حركة فتح لإحيائها، عادت ورفضت، ومنعتهم من القيام بأية فعالية في محافظات الجنوب الفلسطينية تحت حجج وذرائع واهية، ورغم انها "تترحم عليه" في العلن، غير انها توجه له سهامها السامة من خلال قتل وجرح ومطاردة واعتقال إخوانه ورفاقه ابناء الفتح والوطنية الفلسطينية عموما. وتحاول حاليا ان تلعب لعبة قذرة من خلال اللعب على التناقضات الداخلية أولا، وعلى الحركة وخصومها في المشهد الفلسطيني ثانيا للتهرب من اية مسؤولية، معتقدة ان الجماهير الفلسطينية "غبية"، وتجهل حقيقتها الإخوانية حاملة راية المشروع المتناقض مع الوطنية الفلسطينية، التي حاولت مرات عدة اغتيال ابو عمار، كما فعلت مع خليفته الرمز محمود عباس، وكما حاولت مع آخرين من قيادات وكوادر الحركة. لأنها ما زالت مُصرة على اجتثاث حركة فتح من المشهد الفلسطيني عموما وفي قطاع غزة خصوصا، كما اعلنت وقررت عندما انقلبت على الشرعية الوطنية اواسط 2007.

 

ورغم موقفها الرخيص والجبان، فإن ياسر عرفات باق وحي أكثر مما كان. ولم يمت، وصدق الفنان القدير المغفور له عبد الله حداد، عندما غنى وقال "الموت يشد، وياسر يشد، مات الموت وياسر ما مات." نعم الختيار دفن رفات جثمانه، وألقي التراب عليه. ولكنه بتجربته الفذة والفريدة، وبعطائه ودهائه وفنه في إدارة الصراع مع دولة الاستعمار الإسرائيلية، ومع كل الأعداء والخصوم، وبدفاعه المستميت عن اهداف وأحلام شعبه ما زال حاضرا شامخا بعنفوانه ورياديته وعبقريته. ستموت حماس وما تمثل، ويبقى عرفات والوطنية الفلسطينية أبد الدهر. ورحم الله الزعيم الفلسطيني الخالد ابو عمار.